في ربيع عام 2013 كنتُ في مدينة مرسيليا جنوب فرنسا لحضور فعاليات منتدى لحوار الحضارات لدول المتوسط، وتشرفت بلقائه، إنه "الأب باولو دالوليو" أيقونة من أيقونات الثورة السورية.
قبل أكثر من ثلاثين عاما اختار الأب باولو الاستقرار في سورية كوطن بديل لوطنه الأم إيطاليا، فأتقن العربية واختارها لغة لجماعة "أبناء إبراهيم الخليل" التي أسسها، وهي جماعة تهدف إلى عقد مصالحة وحوار بناء بين أبناء إبراهيم عليه السلام من مسلمين ومسيحيين ويهود.
وأكبر شاهد على ذلك هو دير مار موسى الحبشي بالقرب من مدينة النبك، والذي أصبح محجا لكل زوار سورية في العقود الماضية، إذ قام هذا الرجل الخمسيني بلحيته البيضاء وشعره الأشعث بترميم هذا الدير المهجور العائد إلى القرن السادس الميلادي، وجعله ملتقى روحيا وثقافيا لكل أبناء هذا البلد.
يقول الأب باولو في إحدى مقابلاته الصحفية: "هناك عنصر وحيد فاجأني في الثورة السورية، ألا وهو الشباب. هؤلاء الشباب أدهشوني بنضجهم السياسي والإنساني، وباستعدادهم للتضحية بحياتهم في سبيل استردادهم كرامتهم وحقوقهم، وفي سبيل قيم الأخوة والمساواة التي يؤمنون بها. أنا في حياتي كلها لم أتعلم عن كرامة الإنسان، بمثل ما تعلمت من الشباب السوري مؤخرا".
كانت آراؤه تلك كفيلة بجعل النظام السوري راغبا في إبعاده إبان انطلاق الثورة، وفعلا تم الإيعاز للكنيسة التي يتبعها بإنهاء خدماته، وترحيله قسرا إلى بيروت، ظل بعدها متنقلا بين إقليم كردستان العراق وإيطاليا وفرنسا، مرددا أن النظام أبعد "جسمه" عن سورية لتبقى روحه فيها.
للأب باولو مؤلفات كثيرة كان أبرزها مذكراته التي تحمل عنوان "عاشق الإسلام.. مؤمن بعيسى"، والذي عكس خلاله نظرة متفردة للعلاقة بين المسلمين والمسيحيين. يقول عالم السياسة الفرنسي الشهير "ريجيس ديبريه" في تقديمه لكتابه: "إن الإسلام بالنسبة لهذا الأوروبي، ليس موضوع دراسة جامعية، كما أنه ليس افتتانا رومانسيا، وإنما عناق لهذا الدين بكل ما يكتنفه من صعوبات وغموض وحركية، وقد أدار ظهره للنموذجين المتعارضين في المعنى اللذين ينمطان صورة الإسلام في العقل الغربي: إما في البستان الأندلسي القديم الذي يمثِّل الخير، وإمَّا في الذبّاح الأفغاني المعاصر الذي يمثِّل صورة الشَّر".
هل كانت نظرته محقة؟ ربما، ولكن مصيره المجهول حتى اليوم بعد عامين على اختطافه من قبل جماعة مرتبطة بـ"داعش" في الرقة يثير كثيرا من التساؤلات، خصوصا بعد أن تداولت مصادر نبأ مقتله فور أسره، فيما أكدت مصادر أخرى أنه ما يزال حيا في أحد سجون التنظيم السرية.
اليوم يصادف الذكرى الثانية لاختطافه، وهي التي تتزامن أيضا مع الذكرى الثانية لإصدار كتابه الأخير قبل اختفائه القسري، والذي يحمل عنوان "الغضب والنور.. يوميات راهب في الثورة السورية".
من يقرا هذا الكتاب ويتابع مسيرة هذا الرجل يجده يتوافق مع الكلام الذي قاله أخيرا بشار الأسد، وهو الذي كان سببا في إبعاده عن أرضه يوما ما: "سورية لمن يدافع عنها مهما كانت جنسيته".