بهذه المقالة أختم هذه السلسلة من المقالات عن التفكير الأيديولوجي. غاية هذه المقالات كانت إبراز علامات مهمة ومشتركة في منطق التفكير الأيديولوجي. إذن الأطروحة الأساسية هنا أن للأيديولوجيا منطقا وأن هذا المنطق يمكن ملاحظته. تعبير "منطق" هنا تعبير وصفي وليس تقييميا. بمعنى أن المنطق هنا يعني اتساق وبناء مشترك ولا علاقة له ضرورية بكون هذا البناء أو الاتساق سليما أو دقيقا. مثلا التفكير الناتج عن غضب أو عناد أو غيرة له سمات مشتركة تعبّر عن منطق معين، بغض النظر عن كون هذا التفكير يحيد بصاحبه عن رؤية الواقع والتعامل معه بعدالة. أريد أن أختم هذه المقالات بالملحوظات التالية:

أولا: الأيديولوجيا لا تعني الفكر العملي أو الفكر الذي يربط القول بالفعل. هناك ميل فلسفي قديم لاعتبار السلامة من الأيديولوجيا وتعني اللجوء للتأمل المجرد والابتعاد بأكبر شكل ممكن عن أحداث الواقع. الفيلسوف النموذج هنا هو الفيلسوف المنعزل عن الناس المتفرّغ في صومعته للتأمل الخالص. يبدو أن المقدمة القابعة خلف هذه الأطروحة أن ربط التفكير بالواقع المباشر وأحداثه المتسارعة يدفع بالفرد إلى الانحيازات والتأثر الانفعالي بما يراه يوميا؛ مما يحرف تفكيره عن التفكير الدقيق المبني على ملاحظات مباشرة. هذه المقدمة صحيحة بنظري، لكن يبدو أن المقدمة الأخرى المفترضة تقول: الخلاص من كل هذه الانحيازات المتأتية من الانفعالات المباشرة يتحقق بالعزلة والانفصال عن الواقع المباشر. هذه المقدمة التي أعترض عليها لعدة اعتبارات، منها: أن فصل الفكر عن الواقع المباشر يحرمنا من الأداة الأفضل التي يمكن من خلالها اختبار ومراجعة الأفكار. الواقع في الأخير هو المحك الذي من خلاله يمكن أن نمارس فيه علاقتنا الطبيعية مع الأفكار، أن نختبرها ونراجعها. في حالة فصل الفكر عن الواقع تتسلط الأفكار علينا وتصبح أقوى من قدرتنا على مراجعتها وتغييرها. الاعتراض الثاني ناتج عن وجود خيار أفضل نستطيع من خلاله الانتباه لتأثير انحيازاتنا على تفكيرنا وهو خيار المنهج. بمعنى إخضاع التفكير لمنهجيات دقيقة تساعدنا على عدم الاستسلام لنزواتنا العابرة. هذه المنهجيات يفترض كذلك أن تكون مفتوحة ومرنة لكي لا تصبح هي كذلك حاجزا بين الفكر والواقع. بهذا المعنى فإن الفكر العملي ليس بالضرورة أيديولوجيا.

الملاحظة الأخرى التي أريد أن أختم بها هذه المقالات متعلقة بالتأثير النفسي للأيديولوجيا. يمكن التعبير عن هذا التأثير بالعبارة التالية "الأيديولوجيا تخرج الفرد من براءته الأولى ولكنها تحرمه من الرشد". أقصد بهذه العبارة التالي: الأيديولوجيا تزرع في الفرد عدم الثقة في أغلب من حوله وتؤسس فيه التوجس من طبيعة سير الأمور من حوله. بهذا يغادر الفرد السذاجة الأولى الكامنة في الربط المباشر بين الأحداث الظاهرة ونتائجها. الأيديولوجيا تربي أفرادها على أن هناك دائما مخططا سريا وأيادي خفية تدير الأمور. بهذا يصبح الفرد معلقا بين الأرض والسماء فلا هو مقتنع بما يلاحظ مباشرة وليست لديه الفرصة للاطلاع المباشر على ما يدار في الخفاء. هنا تدخل الأيديولوجيا لتملأ الفراغ. بمعنى أن تدخل الأيديولوجيا لتعطي الفرد جوابا عن كل ما يدار في الخفاء بعيدا عنه. هذا الجواب غامض لكنه مريح. الأيديولوجيا الماركسية مثلا تريح معتنقيها بجوابها الدائم أن الرأسمالية والنظام المالي المسيطر هما من يحرّكان العالم ويتحكمان في كل تفاصيله. الأيديولوجيا الرأسمالية في المقابل تقدم الشيوعية على أنها السبب الكامن خلف كل الكوارث المالية التي تتسبب فيها. هذه المرحة الأخيرة تمنع الفرد من الرشد، أي تمنعه من موازنة تشككه في الصورة المباشرة المنقولة عبر وسائط لا يمكن الوثوق المطلق بها، مع ضرورة العودة للواقع ذاته بطرق أكثر دقة للوصول إلى المعلومات المهمة للتفكير السليم. الأيديولوجيا تمنع الخطوة الأخيرة وتطرح نفسها بديلا عن الواقع. لنفكر في هذه الصورة: الأيديولوجيا الدينية المتطرفة تربي أفرادها على عدم الثقة في الآخرين معتنقي الديانات أو المذاهب المخالفة، باعتبار أنهم يكنّون لهم العداوة الأزلية. هنا يفقد الفرد براءته الأولى في تصديق تحية جاره أو زميله في العمل حين يكون من ديانة أو مذهب آخر. الخطوة الطبيعية التالية أن يقوم الفرد هنا بالتحقق بنفسه من مواقف المخالفين له في الدين والمذهب تجاهه.

هذه الخطوة قد تعني تواصلا مباشرا معهم. الأيديولوجيا هنا تقطع هذه الخطوة وتمنع الرشد الذي قد ينتج عنها. الأيديولوجيا تمنع هذه العودة من خلال اعتبارها شكا فيها وخروجا عنها. المطلوب من الفرد في هذه المرحلة أن يتحول عاملا مخلصا في تحصين الأيديولوجيا وتنفيذ مقولاتها. الفرد هنا لم يعد بريئا بما يكفي لتصديق تحية جاره الصباحية، وليس راشدا بما فيه الكفاية ليتواصل مع هذا الجار ليتأكد من مشاعره بنفسه. هذه الحالة من التشويش والارتباك العميق تترجم في كثير من الأحيان تحوّل الأفراد المؤدلجين إلى قوى تنفيذية مذهلة بطاقة رهيبة. الغرق في العمل والتنفيذ في كثير من الأحيان هرب من جحيم التفكير. الأيديولوجيا تعطب التفكير وتجعله مؤذيا، دافعة أفرادها باتجاه تنفيذ أطروحاتها، هذا هو لب الأيديولوجيا: التطبيق بأقل حدود ممكنة من التفكير. التطبيق هنا لا يعني فقط التطبيق العملي المباشر، بل يعني حتى الكتابة حين لا تتأمل مبادئها الأساسية.