عند قراءة صور التعذيب في سجن أبو غريب باعتبارها علامة فارقة على غرق المجتمعات الغربية في الانحطاط الأخلاقي وانتهاك القيم الإنسانية، وصور معتقل غوانتانامو الأميركي، صور انهيار برجي مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر 2001، صور الإعدام الجماعي أو الفردي لكل من يخالف منهج "داعش" في العراق والشام، صور قتل وتشريد بشار الأسد للشعب السوري منذ بدء الثورة السورية في مارس 2011 حتى هذه اللحظة، وأخيرا قراءة صور قتل وإهانة الكرامة الفلسطينية منذ احتلال إسرائيل لبيت المقدس، فإن هذه الصور تربت على رؤيتها أجيال عربية متعاقبة حتى تكرس العنف كثقافة لديها. وبعد القراءة الأولية، تتم عملية اختيار صور العنف التي يمكن عرضها في قنوات التلفزيون أو الصحف، بقرار من رئاسة التحرير، ووفقا للسياسة الإعلامية لكل دولة وتوجهها الأيديولوجي وهذا ما تسميه الأكاديمية الإيطالية في جامعة باريس، ميشيلا مارزانو، بـ"نخبوية مكاتب التحرير"، حيث يعتقد المحررون أن عامة الناس لا يمكن أن تحتمل بعض الصور، وعلى هذا الأساس، لا تبث بعض صور العنف، بينما تعرض الصور غير المباشرة. تعتبر السياسة الإعلامية معقدة جدا وتتغير حسب الأوضاع. وعلاوة على ذلك، قد تختلف الخيارات من صحيفة إلى أخرى.
لكن ما تعريف العنف؟، فما تظنه عنفا من وجهة نظرك، قد يعد أمرا تافها وعاديا في نظر البعض: يعرفه القاموس الفرنسي على أنه كل ممارسة للقوة عمدا أو جورا، وكلمة عنف الفرنسية Violence مشتقة من الكلمة اللاتينية التي تشير إلى القوة، إذن مصطلح القوة والعنف من أصل واحد وإن كان مفهوم القوة Force أكثر شمولية. تشير كلمة عنف في اللغة العربية إلى كل سلوك يتضمن معاني الشدة والقسوة. أما في اللغة الإنجليزية فإن الأصل اللاتيني لكلمة العنف وهو Violentia، يعني: الاستخدام غير المشروع للقوة المادية بأساليب متعددة لإلحاق الأذى بالأشخاص والإضرار بالممتلكات، ويتضمن ذلك معاني العقاب والاغتصاب والتدخل في حريات الآخرين.
في السابق، كانت القنوات الفرنسية تبث تنفيذ عمليات الإعدام. وبعد أحداث 11 سبتمبر، وفي الفيلم الوثائقي Kaboul، بثت القناة الفرنسية الثانية France 2، مشاهد الإعدام شنقا أو بالرصاص في أفغانستان تحت حكم طالبان. في المقابل، لم يتم عرض مشاهد قطع الرؤوس على الإطلاق. إن مقتل نك بيرغ، أول رهينة في العراق في 2004، وهو رجل أعمال يهودي أميركي سعى إلى الحصول على عقد في مجال الاتصالات أثناء الغزو الأميركي لبغداد، واختطفته ميليشيات إسلامية وذبحته كالشاة ردا على تعذيب القوات الأميركية للعراقيين في سجن أبو غريب، يعد النموذج الأول والمعتمد لنشر عمليات الإعدام المشابهة، حيث تظهر الضحية لوحدها في بداية الفيديو أو تعرض صورة ثابتة، وغالبا ما يقف منفذو عملية الإعدام خلف ضحيتهم التي ترتدي سترة برتقالية.
للصحفيين معايير مغايرة في اعتماد صور العنف، تتمثل أحيانا في "الإثارة" التي ترتبط دائما بالصور المروعة أو الفاضحة، أو الرغبة في إظهار انتصارات أو إهانة العدو. بعض وسائل الإعلام تحجب مثل هذه الصور جزئيا كما حدث في عدم إظهار الأعضاء التناسلية لسجناء أبو غريب، حياء واحتراما للمشاهد، وفي صور أخرى تحجب وجوه السجناء، من أجل الحفاظ على كرامة وهوية الأفراد الذين تعرضوا للتعذيب، دون التشكيك في مصداقية الخبر والوسيلة الإعلامية. قد يرى البعض أنه يجب بث صور العنف دون حجبها جزئيا، لأنها قد تكون الدليل الوحيد على وحشية أجهزة الشرطة أو عنف الدولة أو لإظهار البعد السياسي لقضية ما ومدى معاناة شعب كالشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال الإسرائيلي.
أراد أستاذ الاتصال في جامعة Paris III، فرانسوا جوست، أن يميز بين الصور التي تظهر العنف مباشرة (صور عنيفة)، والصور التي تشير إلى وجود عنف ما لكنها لا تحتوي على (مشاهد عنف). تتضمن الفئة الأولى رؤية أمامية وواضحة للعنف أو آثاره على الجسد البشري مثل صور المجازر والجثث. بينما تحتوي الفئة الثانية على صور يكون فيها العنف خارج الإطار أو إيحائيا أو مرئيا عن بعد، يندرج تحطم الطائرات على برجي مركز التجارة العالمي تحت هذه الفئة لأن رؤية انفجار الطائرات وانهيار البرجين كان مؤثرا ومحركا للمشاعر، لكنها لا تعد صورا عنيفة لأن معاناة الضحايا ليست ملحوظة، إلا في الخيال، وأجسامهم غير مرئية.
في الماضي القريب، كنت أظن أن صور العنف تملك قوة رادعة أو تحذيرية للجمهور، لكنني حقا لم أعد أحتمل رؤيتها وأتجنب نشرها قدر المستطاع، لم تعد مشاعرنا تطيق رؤية الدم المسال والعنف بمختلف أنواعه في وطننا العربي. إن هذه الصور لا تملك محتوى معلوماتيا، ولن يتغير موقفنا من القضية الفلسطينية على سبيل المثال قبل وبعد رؤية صور العنف في غزة، إنها فقط تجعلنا نشعر بالعجز والحزن، بالقلق والخوف، بالغضب والاشمئزاز. لذا يجب على وسائل الإعلام السمعية البصرية والمقروءة أن تتبنى ميثاقا يختص بآليات نشر الصور العنيفة. على سبيل المثال، الاتفاق على عدم نشر وجوه الضحايا، وعند مناقشة حدث ما يجب تبرير عدم ظهور بعض الصور للجمهور فيما إذا كان الدافع وراء إخفائها أخلاقيا أو سياسيا، رغم أن شبكة الإنترنت ووسائل التواصل أسهمت في نشر العنف بصورة كبيرة وبأسرع وقت ممكن. نعم، قد يختلف الموقف نوعا ما كما ذكرنا آنفا عندما نريد إظهار معاناة لاستنفار الجمهور حول قضية ما، مثال: أظهرت الصحافة الفرنسية القليل من صور الإبادة الجماعية في دارفور عام 2003، مقارنة بتغطيتها واسعة النطاق للصراعات الأخرى في (أفغانستان، العراق، الأراضي المحتلة في فلسطين). إن كثرة عرض مشاهد العنف قد تحفِّز المشاهد على التصرف العنيف، حيث تزيد من ضغوطاته النفسية وتشحنه بطاقة سلبية كبيرة وأفكار عنيفة. فهل نرفض العنف بممارسة عنف آخر؟ في 2013 حذر المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري في باريس قناةFrance 2 لنشرها تقرير مبعوثها الخاص في مالي الذي أظهر جثث ضحايا السلب، واعتبر المجلس أن العرض المتكرر والملح لجثث الضحايا يشكل انتهاكا لكرامة الإنسان التي يجب احترامها والحفاظ عليها حتى بعد وفاته.
ورغم أن وسائل الإعلام العربية تقتات على أخبار وصور العنف يوميا، إلا أنه لا توجد دراسات كافية تعنى بمدى اهتمام هذه الوسائل بالمضمون العنيف وكيفية معالجتها له، ونسبة انتشار هذا المضمون.