الكتابة هي حكايات حَفْر في الذاكرة أكثر من أي شيء آخر، فثمة أفكار في الذهن تؤرّقه وتحفّزه على الكتابة، كونها أداة التنقيب الوحيدة التي يعثر فيها الكاتب على ذاته أولا، قبل أن يعثر على الآخرين وبقية الأشياء في حياته، باعتبار حالة "وجودية" بالدرجة الأولى، يلجأ فيها الكاتب إلى (فعل) الكتابة في سبيل التعبير عن ذاته، بما يشبه اللعب بالنسبة للأطفال، لكن هذا الأمر لا يلبث إلا أن يصبح شيئا مهما في حياته، باعتبار الكتابة المتنفس الأول للكاتب وفي الوقت ذاته هي مصدر الأمل والألم له، على اختلاف القضايا والموضوعات والأفكار.

إنها مزيج من الجهد العقلي والجسدي والنفسي، غير أن الكاتب يتجاوز هذه الحالة المعقدة دون أن يفكر بتمرحُل النص الذي يكتبه، لتبدو الخطوات تلقائية تبدأ بولادة الفكرة التي قد تكون (قيصرية) أحيانا، وقد لا تنتهي بالنتيجة المرجوة.

تبدأ حكايات الكتابة غالبا بأرق الفكرة، الذي يمثّل القلق الذي لا ينتهي بالنسبة للكاتب الذي يسعى إلى اكتمال "حالة" الكتابة على نحو يرضى عنه ولو نسبيا. في بدايات المرحلة الثانوية بدأتُ أكتب هذا الأرق، على نحو شخصي وخاص جدا، وكأنني حينها وجدت لذّة الكتابة لنفسي، وإن لم تمثّل لي حينها أكثر من دفتر صغير ملأتُه بالأفكار، والخواطر، والحكايات، والرسومات الصغيرة أحيانا، كان هذا "الكشكول" مصدرا للمتعة "الفردية" من خلال الكتابة، لكنه كان منفذا لي إلى عالم الكتابة فيما بعد؛ فمهما كانت الأشياء صغيرة في حياتنا قد يكون أثرها كبيرا فيما بعد.

كانت القراءة بطبيعة الحال مصدرا لحث الذات على الكتابة، فما كنت أطّلع عليه مما توفر في المنزل من بعض الكتب والمجلات والصحف المحلية والخليجية والعربية منذ حقبة أواخر ثمانينيات القرن الماضي كان يدفعني لملء الدفتر الصغير الذي لم يتعرف إليه أحد، وفي ظل استمرار محاولاتي الكتابية تلك، قررت أن أنشر بعض ما كتبت فراسلت صحيفة رياضية محلية تحوي صفحة ثقافية، وتهتم بنشر مشاركات وحوارات القراء -ككتاب واعدين- في زاوية عنوانها (حوار دافئ)، وكانت الوسيلة الوحيدة المتاحة للإرسال هي مكتب البريد، لكن رسائلي لم تنشر مع اعتقادي بوصولها إلى عنوان الصحيفة عبر رقم وعنوان البريد المحدد.

وفي المرحلة الجامعية أفادتني دراستي للتاريخ والأدب العربي في مزيد من القراءة والاطلاع، لا سيما أني كنت من محبي البحث العلمي والمستمتعين به، غير أن زخم الإعلام المرئي للقنوات الفضائية أوائل تسعينيات القرن الماضي له دور في الانفتاح أكثر على ثقافات العالم، وفي محاولات الكتابة أكثر رغم انعدام سبل النشر، إلا أن التحول المهم بالنسبة لي ولغالبية جيلي، هو ما أتاحته تقنية (الإنترنت) التي أسهم انتشارها في سهولة التواصل والاتصال والنشر.

ففي بدء الألفية الثالثة قررت خوض الكتابة والنشر من خلال المنتديات الإلكترونية ببعض الأفكار التي بدأت أعبّر عنها بوضوح، وأحاور وأدافع عنها، وقد وصفها أحد مشرفي المنتدى بأنها تحوي "تجاوزات شرعية" لأني فقط كتبت عن موضوع قيادة المرأة للسيارة، واقترحت استراتيجية لذلك، وكتبت موضوعا آخر عن الديموقراطية في العالم العربي، فما كان من المشرف (الوصي) على المنتدى الإلكتروني إلا أن حذف مشاركاتي وصادر صلاحيتي وأصبح يشارك -نيابة عني- بموضوعات "سخيفة"!

وبعد حادثة 11 سبتمبر، انفتح الباب واسعا أمام جيلي، وارتفع سقف التعبير نسبيا لدى الرأي العام، واتسعت خيارات الكتابة والكلمة إلكترونيا، مما أضعف سلطة الرقيب المتسلط، وأصبح الحس السياسي والفكري المتعلق بأبعاد هذه الكارثة أكثر حضورا بالنسبة لي، وذلك تزامنا مع نشاطي الثقافي في الأبحاث وأوراق العمل والمناسبات الثقافية التي أضافت لي فرصة المواجهة الفكرية والتعبير عن الرأي بشكل مباشر.

وبعد تشّكل النضج الفكري أصبحت الكتابة بالنسبة لي قلقا شبه يومي، وتحولتْ تدريجيا من حالة كتابة إلى حالة وجود، ونشاط منتظم، يتزامن مع القراءة والانفتاح على عالم الكتاب الذي كنت -ومجموعة الأصدقاء المقربين- نتبادل نسخا منها ونصورها في ظل سطوة كلمة "ممنوع"، وفي خضم تلك المرحلة كانت صحيفة الوطن السعودية في أوج صدورها وجماهيريتها وسقفها المرتفع في الطرح، فكنت سعيدا بنشرها مقالتي الأولى بعنوان "شارون.. رجل السلام على الطريقة الرومانية" في صفحة القراء (نقاشات) التي لا تزال قائمة حتى اليوم.

ثم نشرت عددا من المقالات الثقافية والسياسية في صفحات القراء في بعض الصحف المحلية، ومنها مقالة بعنوان "الدستور العراقي المنتظر"، حاولت نشره في صحيفة سعودية شهيرة لكنه لم يجد فرصته للنشر، إلا أن الفرصة الأهم كانت مع جريدة "الوطن" أيضا، كان ذلك قبل عشرة أعوام، ويعود الفضل إلى رئيس تحريرها المكلف آنذاك -رئيس تحريرها الحالي- الدكتور عثمان الصيني الذي استكتبني في صفحة الرأي دون أن يعرفني، وتفاجأت صباح ذلك اليوم برسالة نصية من الصديق الكاتب عبدالله المطيري يخبرني بنشر المقالة.

وعلى الرغم من أنني كتبت مقالات معدودة جدا بالورقة والقلم، إلا أني بعد انقضاء هذه السنوات أروي جزءا من حكايتي باعتبارها (حكاية حَفْر في الذاكرة)، أتذكر فيها كل حرف كتبته أناملي على ورقة بيضاء أو نقرته أصابعي على لوحة مفاتيح سوداء.