لقد فضلنا الله عز وجل كبشر، على سائر مخلوقاته بالعقل، تلك الآلة الجبارة التي لم نتوصل حتى الآن – رغم ثورتنا العلمية والتقنية - إلى فهم كامل لآلية عملها، ولا ارتباطها بالقلب والمشاعر، وهنا تكمن خطورة الأفكار والمعتقدات، وحساسية العمل معها، وإذا أخذنا في الحسبان العلاقة المعقدة بين القلب والعقل وبين المشاعر والأفكار يصبح الأمر أكثر حساسية وخطورة.

    لقد ساءني وساء كل عاقل، هذا الكم من الأفكار المتطرفة التي بدأت تجتاح شبابنا في الآونة الأخيرة، والتي جاوزت في خطورتها كل الخطوط الحمراء التي يمكن أن يتخيلها الإنسان.

    شباب في عمر الزهور يستحلون الدماء في أطهر بقاع الأرض وأكثرها أمنا، في بيوت الله، وفي أشرف الأوقات، حين يصطف العبيد بين يدي خالقهم لمناجاته، إضافة إلى قتل أنفسهم واستباحة دماء غيرهم، والأدهى والأمر أنهم يعتقدون أن ذلك يقودهم إلى جنات الخلود!

     وبعيدا عن الجدل القائم حول معرفة الأسباب الرئيسة لنشوء هذا الفكر المتطرف وانتشاره بين شبابنا – وإن كنت أرى ضرورة الكشف عن تلك الأسباب ومحاولة معالجتها وتلافيهاـ إلا أنني أرى ضرورة البحث العاجل عن حلول جذرية يمكن أن تسهم في وقاية فلذات أكبادنا من هذه الأفكار الهدامة التي بدأت تنتشر بينهم انتشار النار في الهشيم، ليتنكروا لأقرب الناس لهم ويبادروهم بالغدر، ويقابلوا إحسان هذا الوطن بالإساءة إليه، ولعلي في هذه السطور أتناول حلا مهما من الحلول التي أراها قد تسهم كثيرا في الحد من أثر هذه الأفكار وسرعة انتشارها.

      لقد شكلت الثورة التقنية أحد أهم ملامح هذا العصر، وأصبح لقنوات التواصل الاجتماعي قصب السبق في جعل هذا العالم حجرة واحدة وليس قرية كما أريد له، ومع انتشار الهواتف الذكية وسهولة استخدامها، أصبح شبابنا وجها لوجه، مع كل ما يطرح في هذا العالم من خير وشر، وصار الكثير منا - إلا من رحم الله - لا يعلم عن العالم الخاص الذي يحمله ابنه في هاتفه الخاص، ولا عن التربية التي يترباها في هذا الظل الإلكتروني المعتم! وليس بمقدور أي منا منع أبنائه من هذا الداء المستشري، فقد أثبتت الأيام أن ثقافة المنع لا تجدي نفعا، فما الحل؟ الحل هو "المناعة"، لا المنع.

     إن على الآباء والأمهات والمربين إخراج أبنائهم من هذا الظل، بالحوار الناضج، والنقاش الهادئ، وإعطاءهم الفرصة للتعبير عما بداخلهم، والاستماع لهم جيدا، والإجابة عن تساؤلاتهم.

     كم هي الأوقات التي نقضيها مع هؤلاء الشباب مقارنة بالوقت الذي يقضونه في أروقة التواصل الاجتماعي؟ وكم هي القيم والثوابت التي نغرسها فيهم مقابل ما تغرسه الأسماء المستعارة والمعرفات المشبوهة؟ وكيف نفشل في الكشف عن قناعاتهم قبل أن تتحول إلى قنابل موقوتة يصلى بها القريب قبل البعيد؟ ولماذا نتركهم رهن هذه الأفكار كي تحولهم من صناع للحياة إلى أدوات للدمار والتخريب؟

وإذا كان علماء الأحياء ينصحون بالتعرض للشمس لقتل البكتيريا الضارة وبعض ناقلات الأمراض، فإن هذه الأفكار المسمومة التي نشأت وترعرعت في الظل، بحاجة إلى تعريضها لشمس النقاش والحجة، والحوار الهادئ، وعدم تركها تنمو وتستشري في عقول شبابنا وأفئدتهم، وقد بذل علماؤنا ودعاتنا ما يستطيعونه في الرد العلمي الموثق على تلك الأفكار، وبذلت حكومتنا الرشيدة ما تستطيعه من خلال لجان المناصحة، وتبقى الكرة في ملعب المربين، الذين يخالطون هؤلاء الشباب بشكل شبه يومي.

    لقد آن الأوان كي يتحمل المعلمون – في مدارسنا – وأعضاء هيئة التدريس – في جامعاتنا – مسؤوليتهم التاريخية تجاه هذا الجيل، فيفتحوا لهم أفئدتهم قبل آذانهم ويمنحوهم المساحة الكافية لقول ما يريدون وفهم ما يجول في خواطرهم، فالمدارس والجامعات ليست مكانا فقط لتلقي العلم المجرد، بل هي مصانع لإنتاج الشخصية المسلمة المتزنة التي تعتز بدينها وتفخر بوطنها وتنتمي إليه، وإن قيادة هذا الوطن المبارك لم تأل جهدا في تسخير إمكاناته لخدمة أبنائه وبناته وتنشئتهم تنشئة إسلامية قويمة.

     فيا أيها المعلمون، ويا أيها الأساتذة، أخرجوا أبناءنا من الظل، وأصلوا لديهم ثقافة الحوار المسؤول، واستمعوا لآرائهم وشبهاتهم، وناقشوهم بأريحية، واحتووهم بعاطفة الأبوة، واغرسوا فيهم معاني الوطنية الصادقة، والانتماء المخلص لأعز بقاع الأرض وأطهرها، فهذا الوطن أحق بهم وبطاقاتهم.

     أسأل الله العلي العظيم أن يحفظ علينا أمننا وقيادتنا، وأن يحمي شبابنا من شر كل ذي شر إنه سميع مجيب.