(فكرت بأن أكتب شعرا..

وتركت الصفحة بيضاء!

راجعت النص بإمعان فبدت لي عدة أخطاء

قمت بحك بياض الصفحة..

واستغنيت عن الإمضاء)

أحمد مطر

حرية الفكر والتعبير من أهم الحريات التي يحتاجها الإنسان؛ والتي جاءت بها مواقع التواصل وكانت من أسباب ازدهارها؛ فساعدت على أن يقول الإنسان ما يعتقد في حدود معقولة ويختار أن يصنع عالمه الافتراضي من أصدقاء ومعارف أو حتى معرفات مجهولة. الواقع أنها حرية جميلة وخلاقة صنعت أسماء لم تكن من قبل شيئا مذكورا، وربما من ألطف ما فيها الذين يعتمدون سخرية مؤدبة في طرح رؤاهم. وكادت الأمور أن تبقى بخير لو بقيت القضية تفاعلا إنسانيا راقيا، إلا أن الواقع جعل من يحملون بداخلهم كمية من الوصاية يلاحقون ما يكتب؛ فقد صنعت مواقع التواصل نظاما غريبا يجبرك -أو يغريك- على سلوكيات قد ترفضها منها تابعني وأتابعك، أو أعد تغريد ما أكتب وأفعل مثلك، وملاحقة الدعايات المتكررة للقراء حتى بين القضايا الإنسانية التي لا تحتمل مزاحمة من يبحث عن مال!

وبما أن العقل عقال ستكتشف بسهولة مع من تتعامل؛ فيظهر لك كريم الأخلاق من البداية فتراه يرد بأدب أو يهتم لما تقول ولو بنجمة، كما ستجد المنفوخ الموهوم بذاته، خاصة بعض مشاهير العالم الافتراضي، فهو إما عاجز عن الحوار أو لا يأبه لك ويريدك أن تشعر في قرارة نفسك أنه أعلى منك أو أنك تابع لا متابع!

وعلى مستوى تطبيق (الواتساب) ظهرت المجموعات العائلية أو حتى الحوارية الثقافية، وهي جيدة لولا أنها عند البعض أدت إلى "التفاصل" فينكشف عجزنا عن احتمال النقد أو مخالفة أفكارنا.

من الظواهر مؤخرا حسابات وهمية بأسماء لأثرياء الخليج.. وهو سلوك غير مفهوم، والمضحك أنه يظهر على كثير منها الطابع الديني، فصاحب أو صاحبة الحساب يسرق اسما ليس له ويبدأ بتقديم الآيات والعظات بحثا عن الأجر!

التدين الإلكتروني، وحكاية رمي عصفورين بحجر مفادها إرضاء الناس والظهور بمظهر المسلم الملتزم من جهة والبحث عن الأجر الإلكتروني من جهة أخرى.. وينسى المتظاهر أن الأعمال والأجر ليسا قائمين على عمل الآخرين بالنيابة عنك أو خداعهم بالمظهر! ويفتقر بعضهم إلى الوعي فتجد أنه يغرد آليا بالدعاء لوالديه المتوفيين وهما على قيد الحياة، أو يرسل أحاديث وقصصا ومعلومات مكذوبة بهدف الخير لأصحابه ويظهر كذبها لاحقا فيعود للاعتذار!

ويصدق عليه قول الشاعر مع انتشار الكذبة التي عبرت من خلاله حين قال:

(قد قيل ما قيل إن صدقا وإن كذبا فما اعتذارك من قول إذا قيلا!)

المهم من الخلل الذي كشفته هذه التطبيقات رغبة بالتحكم والسيطرة؛ وأسوأ ما يمكن أن يحصل لك أن تقع ضحية لمريض بالوصاية يلاحق أفكارك ويسخر منك ويجعل نفسه في مرتبة الولي على كل ما تقول أو تعبر عنه.. هذه الوصاية التي تصل إلى الهجوم بأسماء مستعارة، وهو سلوك يزعج الجميع، فربما يصمت من تحاور وتجد هجوما عنيفا ينحدر للتخوين والشتائم لك أو له، كما قد يتخصص بعض هذه النماذج المريضة بملاحقة أفكار النساء دون الرجال، أو المشاهير دون غيرهم.. ومنهم من يصرح بالوصاية بجعل صورته الرمزية شعار هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!

لهذه النماذج وكثير غيرها رغبة في تحقيق لذة انتصار مريضة لا تتأتى إلا من الإساءة للغير وتشويه صورتهم، وتذكيرهم بزلة لسان في لقاء عابر قبل سنوات أو سخرية من تقدمهم بالسن وكأن العمر مسبة! ولا تدري هل من يحاورك طفل في السابعة أم سفيه في السبعين؟! متعلم أم جاهل ذكر أم أنثى؟!

أيضا رسالة الواتساب الأخيرة أو التغريدة الأخيرة أصبحت تقليدا تواصليا يرفقها الناس للعظة والاعتبار ولو كانت من التغريد الآلي فستجد أنها ترسل مع التعجب من كاتبها، وشعوره بدنو أجله مع العلم أن كثيرا من طرح الحسابات العربية، خاصة السعودية تدخل في هذا الجانب، فثقافة الموت والدعاء بالموت والهلاك على المخالف، أو الشماتة بموته تأخذ حيزا لا يستهان به!

ما يحصل هذه الأيام تجاوز حتى وصل إلى ماضي المعينين في مناصب حديثة وتقييمهم من خلال كلامهم السابق عن مناصبهم الجديدة حتى بلغ الأمر أن يتبرأ المغرد من كلامه ويهجر أصحابه، ويقدم حسابا جديدا بلا ماض للمتابعين باسم الحساب الرسمي.

ومع أن قراءة الماضي مهمة؛ لمعرفة الحاضر إلا أن هذا خاص بالتاريخ لا بأفكار الإنسان الساخرة.

الوصاية التي تأخذ شكل هجوم جماعي غريبة، تجعل الإنسان وزيرا أو أجيرا يتخلى عن بساطته وإنسانيته في التعبير والتعليق والضحك؛ وحقه المشروع في حياة التواصل وكأننا نطالبه بأن يصرح بما نريد منه بعد التعيين بأثر رجعي!

أخيرا لندع الإنسان على سجيته فلا يحق لنا أن نهاجم حريته في ماضيه أو حاضره ونجبره أن يعمل (أنفلو) لنفسه!