في حوار أجراه (بيلينيو أبوليو مندوزا) ونشره في كتاب "رائحة الجوافة"، ترجمه إلى العربية فكري بكر محمود يقول الكاتب الكولومبي العالمي الراحل (جابرييل جارسيا ماركيز) إنه دخل عالم الكتابة بمحض الصدفة، حيث كان هدفه من ذلك في البداية أن يبرهن لأحد أصحابه بأن جيله قادر على إنجاب الكتّاب، إلا أنه سقط بعد ذلك في فخ الكتابة من أجل تحقيق متعة ذاتية، ثم سقط مرة أخرى في الفخ (الوجودي) للكتابة، حيث اكتشف أن عشقه للكتابة يفوق أي عشق آخر في الدنيا.
وفي ظل تأكيده بأن الكتابة (متعة) يؤكد ماركيز أنها (معاناة) أيضا، فعند بداياته في شبابه كان يكتب بابتهاج شديد دون شعور بالمسؤولية تقريبا، إذ يكتب أربع وخمس وحتى عشر صفحات من عمل ما، بعد أن يكون قد أنهى عمله في الجريدة عند الساعة الثانية أو الثالثة صباحا، ويؤكد أنه ذات مرة كتب قصة قصيرة كاملة في جلسة واحدة، أما بعد ذلك فإنه يعتبِر الحظ حليفه إذا كتب فقرة واحدة جيدة في يوم كامل؛ فبمرور الوقت تصبح عملية الكتابة مسألة مؤلمة للغاية كما يقول.
ويعزو (ماركيز) سبب ذلك إلى ارتفاع مستوى إحساسه بالمسؤولية، في ظل شعوره بأن كل كلمة يكتبها لها وقع أكبر وتأثير في عدد أكبر من الناس، مؤكدا أن الشهرة تقلقه، لا سيما في قارة مثل أميركا اللاتينية التي يصفها بأنها لم تتأهب لاستقبال كتّاب ناجحين، معتبرا أن أسوأ ما يمكن أن يحدث لكاتب لم يتوقع نجاحا أدبيا هو أن يرى كتبه تباع مثل الخبز، حيث إنه يمقت أن يكون موضوعا للفضول العام، مبررا بذلك عدم محبته للمقابلات التلفزيونية، والاجتماعات، والمؤتمرات، والموائد المستديرة.
ويقول إنه لا يتمنى أن يصيب النجاح أحدا "فهو مثل متسلق الجبال الذي يقتل نفسه تقريبا للوصول إلى القمة، وعندما يبلغها ماذا عساه يفعل؟ يعاود النزول بحذر وبوقار قدر المستطاع"، مؤكدا أنه حين كان كاتبا شابا كان يدخن أربعين سيجارة في اليوم، ويكتب أثناء الليل، أما الآن فهو لم يعد يدخن أبدا، ولا يكتب إلا أثناء النهار من التاسعة صباحا وحتى الثالثة بعد الظهر، في غرفة هادئة جيدة التدفئة؛ لأن الضجيج والبرد يشتتان تفكيره!
ويصرّح (ماركيز) بأن الورقة التي لم يُخط فيها حرف -والأماكن المغلقة- كانت تزعجه كثيرا، إلا أن الأمر لم يعد كذلك بعد أن قرأ نصيحة لـ(آرنيست همينجواي) يقول فيها: لا ينبغي علينا التوقف عن الكتابة إلا حينما نعرف الكيفية التي سنستأنف فيها العمل في الغد.
وحول المنطلق الذي يبدأ منه تأليفه لرواية ما، يقول (ماركيز) إن المنطلق هو "الصورة البصرية"، معتقدا أن المنطلق بالنسبة لكتّاب آخرين قد يولد من فكرة أو مفهوم معين، أما هو فيبدأ كتاباته نتيجة تأثير الصورة، وعلى سبيل المثال فإنه يعتبِر قصة "قيلولة الثلاثاء" أفضل قصة قصيرة كتبها، وولدت من رؤيته لامرأة وفتاة صغيرة تتشحان بالسواد وهما تمشيان بمظلة سوداء تحت شمس حارقة في بلدة مهجورة. والأمر ذاته بالنسبة لـ"عاصفة الأوراق" التي يأخذ فيها كهل حفيده إلى جنازة، أما في "العقيد لا يجد من يكاتبه" فكانت نتيجة رؤيته لرجل ينتظر مركبا بقلق صامت، ويستعيد (ماركيز) هذه الصورة القلقة بعد ذلك بسنوات، حين وجد نفسه في باريس ينتظر حوالة مالية بالقلق ذاته الذي كان يبدو عليه وجه ذلك الرجل. وكذلك الأمر بالنسبة لبداية "مئة عام من العزلة"، حيث يصطحب رجل عجوز طفلا ليريه الجليد الذي كان ضمن طرائف السيرك، إذ يؤكد ماركيز أنه استلهم هذه الصورة من اصطحاب جده له إلى السيرك ليرى الجمل العربي ذا السنام الواحد ثم إلى شركة الموز ليرى الثلج وتلامسه يداه الصغيرتان.
وبخبرته الواسعة في عالم الكتابة الإبداعية يؤكد (ماركيز) أهمية الجملة الأولى في أعماله الروائية؛ لأن الجملة الأولى -كما يقول- يمكن أن تكون المختبر الذي يتبلور فيه الأسلوب والبناء وطول العمل الروائي أيضا، أما عن الوقت الذي تستغرقه الكتابة فهو أنها لا تستغرق الوقت الفعلي لكتابتها فقط، إذ أنجز روايته "مئة عام من العزلة" في أقل سنتين، لكنه قبل أن يجلس أمام الآلة الكاتبة لكتابتها قضى حوالي خمسة عشر عاماً يفكر في هذا العمل، ويؤكد أنه لا يهتم مطلقا بأية فكرة لا تستطيع الصمود أمام الزمن، فإذا كانت صائبة بما يكفي للصمود أمام خمس عشرة سنة مثل "مئة عام من العزلة"، وسبع عشرة سنة مثل "خريف البطريرك"، وثلاثين سنة مثل "قصة موت معلن" فإنه ليس أمامه أي خيار سوى أن يكتبها.
ويشير (ماركيز) إلى مسألة مهمة جدا هي ضرورة أن يكون الكاتب مرتاحا، إذ يعتبِر أن المرء يقدم أفضل ما لديه عندما تتوفر لديه الظروف المريحة، فهو شخصيا لا يؤمن بالأسطورة الرومانسية القائلة بأن الكاتب يجب أن يتضور جوعا، وأن يواجه أسوأ الأوضاع ليتمكن من إنتاج الكتابة الإبداعية، بل إنه يكتب بشكل أفضل إذا تناول وجبة جيدة وتحت يده آلة كاتبة جيدة.
فالكتّاب دائما يكونون وحيدين مثل بحارة سفينة محطمة في عرض المحيط؛ لأن الكتابة أكثر المهن "فردية" في العالم، وأفضل الأماكن المثالية للكتابة جزيرة مهجورة في الصباح، ومدينة كبيرة أثناء الليل، مؤكدا حاجته شخصيا لأن يكون على اتصال دائم بالناس في الشارع، ومعرفة ما يدور في العالم.