سأستعرض هنا دراستين تتعلقان بأسواق العمل مع مناقشةٍ لهما لمحاولة توضيح ما يعانيه سوق العمل وما يرتبط بذلك من مشكلات البطالة وسأقدم مقترحاً للحل.. ففي دراستين مثيرتين بنتائجهما قام بهما موقع "بيرنينج جلاس" ومؤسسة "مكنزي" حول مستوى المتقدمين للوظائف والمهارات التي يتطلبها سوق العمل العالمي.. حيث أظهرت نتائج موقع "بيرننج جلاس" أن 65 % من أصحاب الأعمال يطلبون بل تشترط إعلاناتهم أن يكون المتقدمون لوظائف "سكرتير" من حاملي الشهادة الجامعية.. وأظهرت الدراسة أن من يعملون في هذه الوظيفة الآن، ويحملون درجة البكالوريوس لا تتجاوز نسبتهم 19% فقط، ويعني هذا أن حوالي 81% من الذين يشغلون هذه الوظيفة سيضافون إلى نسبة البطالة.. وأظهرت الدراسة أن أصحاب الأعمال يفصلون هؤلاء تباعاً؛ لاستبدالهم بمن يحملون مهارات متوسطة من حملة البكالوريوس على الرغم من إمكانية عدم وجود صلة بين الشهادة وبين مهمة العمل، ويلحق هؤلاء بدورتين تدريبيتين على الأكثر لإتقان العمل من ناحية ولتكون الشهادة بطاقة مؤهلة للموظف.
هذا أحد الأسباب المؤدية إلى البطالة.. وفي دراسة "مكنزي" المتعلقة بكيفية استخدام كمية المعلومات المتدفقة بشكل كبير على المواقع والمتعلقة بالمواهب والتي تهدف إلى كشف تلك المواهب والعثور عليها وتصنيفها ودعمها، ثم ربطها بمجالات سوق العمل الحقيقية التي تم التعرف عليها عن طريق دراسات علمية تكشف المجالات بصدق لا توقّع؛ لأن التحولات المتسارعة في أسواق العمل تتطلب المتابعة بشكل مستمر. فالمهارات التي كنا نحتاج إليها قبل أربع أو ست سنوات لم نعد في حاجة حقيقية إليها اليوم، والتعويل على معرفتنا أو دراساتنا القديمة في التوظيف يفاقم مشكلات سوق العمل.
وأشارت الدراسة إلى أن "سوق العمل الفاشل" هو:
أولا: ليس لديه قاعدة معلومات للمتقدمين للعمل ومؤهلاتهم ليس فقط الشهادة ومجالها، بل ما يحمله المتقدمون للعمل من مهارات وما يحتاجون إليه من مهارات بدراسات تحدد بدقة المهارات التي يحتاجون إليها وفقاً لمعرفتنا بمجالات سوق العمل هذا.
ثانياً: التعرف على احتياجات قوة العمل. بمعنى آخر أن نعرف بدقة مجالات سوق العمل والنسبة التي يحتاج إليها كل مجال من الكوادر.
ثالثا: المهارات التي يحتاج إليها كل مجال وبدقة.
رابعاً: بناء حقائب تدريبية على المدى القريب لتدريب من هم على رأس العمل لتدريبهم على المهارات الجديدة التي تطلبها سوق العمل لتفادي فصلهم وبناء مناهج في التعليم؛ لتدريس المهارات الجديدة عن طريق التخصصات التي تدرس في الجامعات، ويمكن إعطاء جرعات منها في المرحلة الثانوية حتى يكون هناك مواءمة "حقيقية" مبنية على أسس علمية بين مخرجات التعليم وسوق العمل.. وأثبتت دراسة "مكنزي" أن أسواق العمل في العالم لم تواكب التسارع الذي يشهده العالم الرقمي والتحولات الاقتصادية التي تحدث للاقتصاد العالمي، ما أدى إلى وجود أسواق عمل فاشلة حول العالم.
وأوضحت الدراسة أن "الفجوة بين أسواق العمل والمهارات التي تتطلبها تلك الأسواق كبيرة" وقالت: "إن هذا عرَض من أعراض سوق العمل الفاشل". وفي بُعد آخر للمشكلة تقول الدراسة إنه ثبت أن هناك من يحملون مهارات عالية تتوافق مع سوق العمل، لكنهم لا يعرفون أين يتجهون. ولا يعرفون الأماكن التي يمكن أن توظفهم لضعف أو لعدم وجود من يربط بين أولئك وبين الأماكن التي ستوظفهم. وبعد ثالث وهو أن بعض العاملين لديهم الرغبة الشديدة في رفع كفاءتهم وحصولهم على المهارات الجديدة التي يتطلبها سوق العمل، لكنهم لم يمنحوا فرص التدريب إلا من عدد قليل من أصحاب الأعمال، وتضيف الدراسة أن العصر الرقمي قد وفر فرص التدريب على الإنترنت وهو قليل التكاليف وعظيم الفائدة، لكن لم يتم تفعيل هذه الميزة بالمستوى المطلوب.
هناك كوادر واعدة في القرى والأرياف يمكن اكتشافهم والوصول إليهم وإعادة تأهليهم بالتدريب وإكسابهم المهارات الجديدة؛ عن طريق تفعيل مواقع تدريب وطنية عالية المستوى والإمكانات، يمكنها تدريبهم وإلحاقهم بسوق العمل، وتبين الدراسة أنه "لا بد من تعريف العمل والتعليم من أجل التوظيف والوصول للكوادر"، وإلا سنحصل على أسواق عمل فاشلة.
خلاصة القول: ثلاث جهات تشترك في المشكلة والحل هي، العمل والتعليم والتكنولوجيا. العمل بالتعرف على مجالات سوق العمل، والتعليم بالتعرف على المهارات التي يتطلبها كل مجال بدقة متناهية وبناء على دراسات علمية، ثم بناء مناهج للتدريس كخطة آجلة وبناء حقائب للتدريب كخطة عاجلة. والتكنولوجيا لمساعدة هذين القطاعين ببناء مواقع لربط العاملين بأصحاب العمل ثم "التدريب عن بُعد" لأن هذا النوع من التدريب يصل للملايين بسهولة ويجعل هؤلاء العاملين على درجة كبيرة من التأهيل ويوصلهم لأصحاب العمل. هنا نتخلص من سوق عمل فاشل يفاقم البطالة ويفاقم المشكلات المترتبة عليها والتي لا تخفى على أحد.