المشهد والواقع السياسي الحالي المُر؛ يقول إننا عشنا تجربة سياسية أميركية تاريخية امتدت عشرات السنين، والواقع الأكثر مرارة يقول إننا لم نتعلم حرفا واحدا من فنون اللعبة السياسية على طول تلك الفترة!

أميركا تعقد اتفاقا سياسيا طبيعيا مع إيران، متجاهلة كل ذلك التلازم التاريخي السياسي والاقتصادي مع العرب ودول الخليج على وجه الخصوص، ليس لأنها تنكرت لنا ولما بيننا من "عيش وملح ونفط ورز أبو بنت"، بل لأن أميركا لا تفكر في الأمر كما نفكر فيه نحن العرب على طريقتنا العاطفية.

إذ لا مجال للعواطف في الحرب والسياسة على الإطلاق، فنحن نرى أن أميركا خانت، وهذه قراءة عاطفية بحتة، يتوجب على العقلية العربية أن تخرج من سيطرتها إذا ما أرادت الحضور بفاعلية في مستقبل العالم وخارطته.

ونحن العرب، لا نمتلك ذاكرة سياسية تاريخية جيدة عن الآخر أيضا، ولا يعلم السواد الأعظم من الشارع العربي، أن البرنامج النووي الإيراني كان قد بدأ أصلا بدعم من أميركا نفسها عام 1957 - 1958، حينما بدأ بمفاعل نووي للبحوث السلمية، بعد أن اشتركت جامعة طهران فيما عُرف يومها ببرنامج "الذرة من أجل السلام" على عهد الرئيس الأميركي دويت آيزنهاور، وبدأ العمل الفعلي به عام 1967، وساندت إسرائيل هذا التوجه من خلال عقد تعاون بين معهد وايزمان ومركز البحوث بجامعة طهران في تلك الفترة.

ما يعني أن هناك أرضية مشتركة سابقة صالحة جدا لأن تكون منطقة اتفاق أميركي إيراني معقولة ومناسبة جدا.

البعض منا يرى أن أميركا بهذا الاتفاق قد سلمت الشرق الأوسط برمته إلى القبضة الإيرانية، مقابل تحجيم برنامجها النووي، ووضع مصالح الشركات الأميركية في أول السلم.

الصورة من هذه الزاوية تبدو معقولة كمنطق سياسي متجرد يراقب المصالح الأميركية من جهة، وإصرار إيران على إجبار العالم على الاعتراف بحقها في برنامجها العسكري النووي.

لكنني أرى أن هذا التسليم المحتمل جدا، وإن كان قد حدث بالفعل في الحقيقة، إلا أنه سيظل مشروطا ومرتبطا بنوع وحجم ردة الفعل العربية والخليجية على وجه التحديد، فإما البقاء كمتفرجين سلبيين، أو الإمساك بأحد خيوط اللعبة، لنكون على الأقل مؤثرين في الصورة، وأصحاب مشروع عربي خاص، لا يمر عبر أميركا كما جرت العادة، بل يثبت لها أن هناك ما يمكن إنجازه دون بصمتها على هذا الجانب وبقوة.

الأسبوع الماضي كتب "روبرت فيسك" مقالا في الإندبندت البريطانية قال فيه: "سيكون هناك الكثير من المكالمات الهاتفية كتهدئة من أوباما لملوك الخليج، الذين سيسمعون عبارات من قبيل "لا شيء يدعو للقلق، الأمور تسير إلى الأفضل وثقوا بنا"، لكن تذكروا أن أوباما هو في العادة يمشي بعيدا عن حطام السيارة، حتى دون استدعاء شركات التأمين"، وهذه إشارة كبيرة إلى أن الرئيس الأميركي أوباما لم يعد يبالي بالأزمات التي تحدث في المنطقة تاركا إياها دون حلول عملية".

نحن إذن أمام واقع يحتم علينا أن نأكل بأيدينا لا بملاعق أميركا، وأن نعيد تعريف أنفسنا لأنفسنا أولا ولأميركا والعالم ثانيا.

أما الوقوف مولولين وملقين باللائمة على إيران ومشاريعها التوسعية في المنطقة، فلن يكون سوى أقوى تعبير عن هزيمتنا التي يريدها الآخر تماما، وهي جزء من مشروعه الكبير.

وليس هناك أدل على برود الهرولة الأميركية بعد سلسلة الاتفاقات السعودية مع عدة دول، إلا حديث وزير الخارجية الأميركي "جون كيري" في مقابلة أجرتها معه محطة الـCNN الأميركية ردا على مقال نشر للأمير بندر بن سلطان: "أختلف بالرأي معه "الأمير بندر بن سلطان" بشكل كبير، بالأمس قابلت وزير الخارجية للمملكة العربية السعودية، حيث قال على الهواء إنهم يريدون اتفاقا، وأدرجوا عددا من النقاط التي سيرتاحون لوجودها في الاتفاق، والاتفاق تناولها بالفعل".

فإذا كان الاتفاق ليس فيه ما يلحق الضرر بالدول الخليجية، فلماذا ترسل أميركا سياسييها للتطمين والتهدئة؟

أقول لكم ببساطة.. لأن هذا الاتفاق لا يشتمل على قائمة للضمانات الأميركية المعتادة في بنوده، وأن علينا الاستعداد أيضا لقبول تغيرات كبيرة ومدوية في المنطقة، وهي التي وصفها "روبرت فيسك" في مقاله بالتغيرات المزلزلة.