هل استوعبنا الدرس؟ تساؤل نقله نائب الرئيس العراقي السابق طارق الهاشمي عبر "عصفوره الأزرق" غداة التوصل إلى اتفاق نهائي حول البرنامج النووي الإيراني بين طهران والدول الست الكبرى.

يقول الهاشمي، وهو من أكثر الشخصيات التي عانت من النفوذ الإيراني في بلاده: "نحن في عصر القول الفصل فيه للأقوياء وليس للضعفاء، ولا احترام لمن يوسد أمره إلى غيره، آمل أن نكون قد استوعبنا الدرس!"

ولكن يا ترى ما مفهوم القوة في هذا العصر، ومن الذي فرض قوته في هذا الملف تحديدا؟ هل هي إيران التي كانت تئن كالطائر الجريح بسبب وضعها الاقتصادي وعزلتها الدولية، وكانت على مرمى حجر من توجيه ضربة عسكرية لمنشآتها النووية إن لم تسارع لوضع النقاط على الحروف؟

أم عساها الولايات المتحدة التي رضخت للابتزاز الفارسي وضحت بحلفائها التاريخيين في المنطقة؛ رغبة في التقارب مع المارد الإيراني وتصويره حملا وديعا، متناسية تاريخها الطويل مع من كان يصفها ولا زال برأس الأفعى والشيطان الأكبر، داعيا عليها بالموت بكرة وأصيلا؟!

شخصيا، لا أعتقد أن أيا منهما كانت في موقع قوة عندما قدمت كل هذه التنازلات من أجل الجلوس على طاولة التفاوض، لكنهما وصلتا معا إلى حقيقة دامغة مفادها أن الحوار هو لغة العصر، وهو المخرج الوحيد من عنق الزجاجة التي إن انفجرت فلن تبقي شظاياها ولن تذر، وأن القوة الحقيقية تكمن في لاعب ذكي يبرع في تحريك بيادقه على رقعة الشطرنج؛ لحماية مكتسباته والخروج بأقل الخسائر الممكنة، دون أن يهدد مصالح خصومه، مستخدما العبارة الفارسية الشهيرة "كش ملك"، لكنها سياسة احتاج الإيرانيون سنوات لفهمها بعدا أن اكتشفوا أن قواعد اللعبة التي كان لهم شرف ابتكارها يوما ما قد تغيرت.

حتى إسرائيل التي ما انفكت ترعد وتزبد ضد إيران، واستخدمت لهجة هي الأكثر حدة في تاريخ علاقتها مع واشنطن احتجاجا على توقيع الاتفاق، ها هي تجنح إلى قواعد اللعبة الجديدة وتسعى إلى الحصول على أكبر تعويض عن خسارتها تلك من إدارة الرئيس أوباما حتى وصل الأمر إلى حد أن تجرؤ على مطالبة المجتمع الدولي بالاعتراف بشرعية احتلالها لهضبة الجولان السورية، على فرضية أن سورية والعراق دولتان اختـفتا من خـارطة العالم -كـما روج بعـض المسـؤولين الأميركيين مؤخرا- وأن الكعكة باتت جاهزة للتقسيم.

عموما، فإن كل المؤشرات تصب في صالح أن إيران وإن حاولت التلويح بإشارة النصر فإنها قد سُيرت ولم تُخير، وأنها قد تجرعت كأس السم مجددا كما فعلت لإنهاء حربها مع نظام صدام حسين، وذلك عبر تقديم الكثير من التنازلات، بما فيها تسوية قائمة على كف يدها عن العديد من الملفات الإقليمية، لا سيما تلك التي لا ناقة لها فيها ولا جمل، لكن الأمر كان بحاجة إلى مستجدات ميدانية تجبرها على الإسراع في هذه الخطوة، فكانت عملية (السهم الذهبي) لتحرير عدن وما تبعها من تطورات على الصعيد اليمني، لنشهد بوضوح تراجعا للنفوذ الإيراني في هذا البلد، قد يتبع بتراجعات في أماكن أخـرى إن توفـرت الظـروف الملائمة.

أعتقد أن المملكة قد تلقت كل تلك الإشارات بذكاء، ولن تفوت فرصة تاريخية كهذه لتحجيم دور طهران في المنطقة، والوصول إلى حزمة حلول للعديد من الملفات الإقليمية العالقة بسب التدخلات الإيرانية.

خاصة وأنها بدأت فعلا بتطوير علاقتها مع قطبين دوليين بحجم الدب الروسي والتنين الصيني؛ لتختار سياسة عدم وضع البيض في السلة الأميركية فقط، ودخلت في تحالفات استراتيجية مع دول بارزة في الإقليم كتركيا وفرنسا، كما أنها تسعى حاليا لامتلاك التقنية النووية وعدم تركها حكرا على إيران وإسرائيل.

كل تلك العوامل وغيرها ستسهم في فرض (الرياض) لاعبا أساسيا على رقعة الشطرنج الدولية بقواعدها الجديدة، وأعتقد بأنها ستربح جولاتها حتما لو اختارت الجلوس إلى طاولة الحوار مع طهران يوما ما.