حتى الآن ذكرنا عددا من السمات التي يمتاز بها التفكير الأيديولوجي. في هذه المقالات يمكن فهم وصف الأيديولوجي بمرونة. بمعنى أن تكون هذه العلامات جزءا أساسيا أو طارئا من بنية الخطابات المعرفية. حين تكون جزءا أساسيا فهذا يعني أننا أمام خطاب أيديولوجي بالأصالة. أما حين تكون هذه السمات عارضة فنحن أمام جوانب أيديولوجية في خطاب أكبر لا يعني أن تشمل السمة الأيديولوجية جوانبه الأخرى. هذا المعنى الأخير يفتح المجال للمقولة المشهورة أن كل فكر يحمل أيديولوجيته. سأعدل المقولة هنا لتكون كل فكر يحتمل سمات الأيديولوجيا. الفرق أن هناك خطابات أصلها -سواء بالمبنى المنطقي أو بالغايات المحرّكة- أيديولوجي وأخرى تشكل فيها السمات الأيديولوجية عَرَضا واستثناء. أيضا يمكن القول إن هناك خطابات واعية بـ"الخطر الأيديولوجي" وأخرى ليست كذلك. الوعي هنا يظهر من خلال فتح سؤال الأيديولوجيا من باب نقد الذات. الخطابات غير الواعية بهذا الخطر أو التي لا ترى هذا الخطر أساسا تغلق احتمال هذا السؤال. لذا نجد أن الخطابات الأيديولوجية حادة جدا مع النقد الذاتي وتساويه كثيرا بجلد الذات والخيانة والعداوة. هنا أستكمل ثلاث السمات الأخيرة من سمات التفكير الأيديولوجي.
14- استساغة التناقض بين الأقوال وبين الأقوال والأفعال:
القول الأيديولوجي محكوم بهدف رئيس وهو تحقيق الأهداف الأولى للحزب أو الجماعة وبأي وسيلة، وهذا ما يجعله يقع في كثير من التناقضات التي يتم التغافل عنها أو تبريرها تبريرات واهية. فالأيديولوجي الإسلامي يؤكد دائما على تحريم الغيبة والحديث في أعراض الناس خصوصا العلماء ولكننا نجده من أكثر الناس حديثا في أعراض مخالفيه ومن أكثرهم تهجما واتهاما لهم، ويسوغ ذلك بضرورة إظهار الحق ولكنه لا يناقش المخالف علميا فينقض حججه، بل يتجاوز ذلك إلى نياته ومقاصده. هذا التناقض يتم تجنبه ظاهريا من خلال تحويل القيم من مستوى المبادئ إلى مستوى التوزيعات الاجتماعية. بمعنى أن يفصل الأيديولوجي بين حقوق الذات وحقوق الآخر. هذا الفصل يجعلنا أمام منظومتين مختلفتين من الحقوق. الاعتداء الممنوع على الذات ممنوع ولكن الاعتداء ذاته مسموح ما دام موجها تُجاه الآخر. من نماذج التناقض بين القول والفعل مثلا صراخ الأيديولوجي لحرية "الأمة العربية والإسلامية" وفي ذات الوقت يقوم بإصدار الأحكام الإيجابية تجاه أكبر قامعي تلك الأمة ما داموا ينتمون إلى المذهب الأيديولوجي نفسه الذي ينتمي إليه.
15ـ غياب التمييز بين الفكر والواقع:
لا يميز الأيديولوجي بين الفكر والواقع، فهو دائم الخلط بينهما، فلا يراعي في أفكاره واقعيتها، أو قدرتها على العمل في الواقع، ويصل به الحد إلى اعتبار أن واقعه ما هو إلا تعبير عن أفكاره. وهو بهذا غير قادر على التفكير بشكل سليم فإما أن يتعلق بأفكار خيالية وهو يظن أنها لا شك واقعية، أو ينطلق من واقعه وهو يرى أنه متماه مع الأفكار؛ مما يساعد على غياب مثل هذا التمييز بين الفكر، والواقع أن الداعية الأيديولوجي لا يخطط حقيقة لدفع ضريبة أفكاره حين تنفّذ على أرض الواقع بنفسه. عادة ما يكون هناك مخططون دعاة ومنفّذون. على سبيل المثال الأيديولوجي الإسلاموي أو العروبي الذي لا يعيش في غزة، ويطلب من أهلها المقاومة حتى ولو أدى ذلك لإبادتهم بالكامل يعبّر عن نموذج للفصل الأناني بين الفكر والواقع. لابد للمقاومة من ثمن، يردد هذا الداعية، ولكنه لن يدفع هذا الثمن. هذا يتوافق مع ما ذكرناه سابقا من كون الخطاب الأيديولوجي يسعى للبحث عن تابعين ومنفذين وليس مفكرين وناقدين. ميزة التابع بالنسبة للأيديولوجي أنه بعيد عن مساءلة هذه الحقيقة الفجة: غالبا ما يطالب الداعية الأيديولوجي الآخرين القيام بتضحيات لا يقوم هو بها.
16ـ الخلط بين أحكام الواقع وأحكام القيمة:
الأحكام الأيدلوجية أحكام قيمية وليست أحكاما معرفية، والفرق بين الحكم القيمي والمعرفي أن القيمي مهتم بعطاء قيمة معينة كالتحليل والتحريم والتجميل والتقبيح، بينما الحكم المعرفي هو حكم موضوعي قائم على الأحكام الوصفية المتعلقة بالوقائع والظواهر كما هي.
ولا شك أن الحكم القيمي يعتمد على أساليب تتراوح بين الترغيب والترهيب، ولا تعتمد على المنطق والعقل والحجج والإثباتات. وذلك لأن الاقتناعات الأيديولوجية ليست وليدة العقل بل وليدة الأهواء والمصالح والفوبيا والاستيهامات الجماعية. هذه السمة يمكن ملاحظتها في حساسية الأيديولوجي من التوصيف وربطه مباشرة بالانحياز التقييمي. مثلا في عزّ الأيديولوجيا الشيوعية "الستالينية" كان من الصعب جدا على الباحثين إصدار دراسات وصفية تصف الحالة الاقتصادية والسياسية للبلد. الصعوبة تكمن في أن النظام السياسي لا يفرّق بين حكم الوصف وحكم القيمة. حكم من نوع: الأرقام تشير إلى عجز هائل في الميزانية يتم فهمه على أنه: يجب إفشال النظام الاقتصادي لإسقاط النظام. هذه النقطة مرتبطة بالنقطة السابقة باعتبار أن عدم التمييز بين الفكر والواقع يؤدي إلى عدم التمييز بين أحكام الواقع وأحكام القيمة. نلاحظ في الجدالات الأيديولوجية سطوة الحديث عما يجب فعله بدون الحديث الكافي عن إمكانية القيام بذلك الفعل. هذه النقطة مهمة باعتبار أن الخطاب الأيديولوجي مشغول بتغيير الواقع وليس بالتفكير النظري في القضايا المطروحة. النتيجة أن نصبح أمام فكر يهدف إلى تغيير الواقع دون أن يأخذ هذا الواقع بعين الاعتبار حين يتخذ قراراته.