على الرغم من الحجم المهول لكمية المعرفة في مدارسنا، بداية من الابتدائية وإلى أعلى المراحل الجامعية "ما دون مرحلة الدكتوراه"، فالنتيجة التي أشعر بها وأعتقدها أن الواقع مغيب عنا تماما، حيث أصبحت الظواهر الطبيعية تمر علينا مرور الكرام بدون استشعار أو ملاحظة عوضا عن سبر تناقضاتها، هذا الشعور حثني على التأمل في واقع التعليم ومساءلة جدوى كل تلك السنين. فالمادة التعليمية في أصلها وبغض النظر عن ماهيتها ناتجة عن تأمل الواقع، سواء كان إنسانيا أو طبيعيا، ومنه بعد ذلك يتوصل الباحث إلى تكوين معرفي يحكيه لنا في شكل معادلة أو نظرية اجتماعية، حيث ينتهي المطاف بهذه المعرفة بأن يتداولها الطلاب في مراحلهم التعليمية المختلفة.
ما أعنيه في هذه المراحل هو "الاستقراء والملاحظة" أعلم أن هناك ثلاثة أنواع أخرى كما يخبرنا بها فلاسفة العلم، ولكن الاستقراء هو أحد أصلين معلومين في منهجية البحث والتعلم منذ فترة طويلة، قبل أن تصبح أربعة مناهج كما ذكرها العالم (بليكي) في كتابه. سؤالي الآن، لماذا لا يكون الاستقراء أحد أهداف التعليم؛ بدلا من الحشو الزائد المشتت لأهداف المعرفة الحقيقية؟ فمن المعلوم أن التقدم المعرفي لا يتم -إلى حد ما- إلا عن طريق ملاحظة الظواهر الطبيعة بشقيها الاجتماعي والطبيعي، وهذا الفهم لا يتم أيضا إلا عن طريق أشخاص -بغض النظر عن ماهية الجنس- متمرسين ومحبين لهذا المنطق، ولكن وللأسف طريقة التعليم الحالية تمنعنا أو بالأحرى تقف عائقا أمام فهمنا للطبيعة، إضافة إلى ما تحدثه من جفوة تتراكم عبر السنين.
إن واقع تعليمنا الحالي يؤدي إلى هذه النتيجة الحتمية فعلى الطالب حفظ ومتابعة كل ماهو مكتوب بدون مساءلة أو مساهمة، وخصوصا في كيفية بنائه، نعم كيفية بنائه، لذلك آمل أن يسهم هؤلاء الطلاب في هذا البناء المعرفي وأن يمنحوا مساحة للمشاركة في بناء نظرية أو معادلة رياضية لعلنا في يوما ما، عن طريق المصادفة، نخرج بإنتاج علمي لم يكن على البال والخاطر. وهذا المقال لا يحرص كثيرا على المساهمة في زيادة الإنتاج المعرفي -على الرغم من أهميته- أكثر من زيادة محبة العلم، فتعليم النشء كيفية بناء العلم أفضل من تعليمهم ما هو موجود؛ لأن الموجود من نظريات وقوانين قد يتغير مع الزمان والمكان لكن كيفية إنشائها هو مربط الفرس.
ومن السلبيات التي لا تخفى على المختصين هجر العلم والتعليم بسبب إهمال تربية النشء على الطرق الاستقرائية والملاحظة، وما أقوله ليس من وحي الخيال أو التأملات مع العلم، فحينما كتبت هذا المقال كتبته من خلال تجربتي الشخصية مع الاستقراء والتي استمرت إلى فترة معتبرة، ولكن عندما راجعت الأبحاث المتخصصة صعقت بالنتيجة، حيث وجدت ما مررت به مطابق تماما لنتائج الدراسات البحثية، وركزت هذه الدراسات على معرفة الأسباب المؤدية إلى عزوف وهروب الطلبة الأميركيين من التخصصات العلمية، فقد وجد الباحثان (سيمور وهيوت) في 1998 أن طريقة تقييم وتصميم المواد التعليمية هي السبب الرئيس خلف هروب الطلبة من الأقسام العلمية، حيث إنها تحول بين الطالب والواقع وليس كما كان يقول أغلب الأكاديميين في ذلك الوقت؛ بأن الأجيال الحالية أقل كفاءة أو أقل جهدا من الأجيال السابقة، وليس كذلك حجم الفصول، ولا حتى قلة الموارد التعليمية، وليس رداءة المساعدة في التحصيل العلمي، ولكن كان السبب الرئيس خلف هذا الهروب الجماعي هو طريقة تصميم المناهج، حيث ابتعدت عن تبني الطرق الاستقرائية والملاحظة والتأمل في التعليم.
على كل حال لن أنسى قبل إنهاء المقال ذكر بعض أشكال وطرق الاستقراء كما ذكرها المتخصصون في هذا المجال: التعليم عن طريق الاكتشاف، التعليم المعتمد على الأسئلة، إيجاد الحلول للمشكلات، المشروعات التعليمية، التعليم عن طريق حالات معينة وأمثلة.