الوعظ وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله، وليس وسيلة من وسائل الترويج والاستقطاب الحزبي، ولا هو سبيل للدعوات السياسية، ولا لتصفية الحسابات مع الخصوم الحزبيين أو السياسيين.
هذا لا يعني أن الواعظ والخطيب لا يبدي رأيه، بل هذا من حقه حال كونه إنسانا مفكرا حرا مختارا، ولكن ليس من خلال منبر الجمعة، ولا تحت اسم الموعظة والدعوة.
لا يفهم الناس الوعظ إلا أنه دين الله، وأن الواعظ مبلغ لدين الله، ومن الخلل والخلط الذي لا يؤدي إلى خير أن يختلط "الرأي السياسي" بدين رب العالمين؛ لأنه سيضفي ثوبا من القداسة على الرأي السياسي، أو على الحزب السياسي، فإذا الخطبة والموعظة مقالة سياسية، وتحليل سياسي! فيصبح التحليل السياسي والرأي السياسي والحزبي دينا يدعى إليه!
وإذا كان الفقهاء والأئمة والعلماء فصلوا وفرقوا بين ما هو رأي اجتهادي وما هو دين، فالرأي السياسي من باب أولى، وقد أوضحنا أقوال العلماء في "الاجتهاد" في مقالات سابقة، فلا حاجة إلى مزيد توضيح في هذه المقالة.
إن هذا الخلط والمزج بين "الرأي السياسي" أو "الحزبي" وبين الدين له خطورته الشديدة؛ ذاك أنه سيجعل المخالف في وجهة النظر السياسية مخالفا للدين نفسه، ويترتب على هذا ولاء وبراء، ونصرة وخذلان ما أنزل الله بها من سلطان.
ويشتد الأمر خطورة حين يكون هناك خلاف سياسي بين دولة إسلامية ودولة أخرى، ولكل منهما مقيمون في الأخرى يعيشون فيها ويعملون ويرتزقون، يشهدون الجمع، ويحضرون الدروس، فلك أن تتخيل ما سيحدثه إدخال الخلافات السياسية "الدنيوية" في الدين والوعظ من فتنة واحتراب بين أبناء تلك الدول؛ وما يمكن أن يترتب عليه من حرج وضيق هم أغنى الناس عنه، وليس لهم فيه ناقة ولا جمل.
والسياسة بطبيعتها متلونة متقلبة سيالة، فعدو الأمس يصبح حليف اليوم، وحليف اليوم يصبح عدو الغد؛ لا لأسباب دينية، بل لأسباب مصلحية دنيوية محضة تلبس أحيانا لبوس الدين.
ومن الناس متلونون، يتلونون مع أهواء السياسة حيث تتلون، ويغيرون اتجاهاتهم كلما تغير اتجاه ريحها. وليس دين الله كذلك.
وما أذكره هاهنا ليس من باب (العلمانية) في شيء، فمن حق الواعظ أن يتكلم في "كليات الدين" جميعها، أن يتكلم في العدل والمساواة والإحسان، وإدانة الظلم والعدوان، له الحق أن يدعو إلى ما دعا إليه دين رب العالمين أن يطبق في الحياة، لكن على جهة الكليات، أما أن ينزل تلك الكليات على الواقع السياسي ويهيج الناس بعضهم على بعض، فهو مفتاح من مفاتيح الفتنة ولا شك، فالناس متفاوتو الإدراك، مختلفو الأهواء، متفرقو الاتجاهات.
أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس، قال: كنت أقرئ رجالا من المهاجرين، منهم عبدالرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى، وهو عند عمر بن الخطاب، في آخر حجة حجها، إذ رجع إليّ عبدالرحمن فقال: لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم، فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان؟ يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت، فغضب عمر، ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم. قال عبدالرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكنا، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها. فقال عمر: أما والله -إن شاء الله- لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة.
الشاهد هنا، أن الصحابي الجليل عبدالرحمن بن عوف -رضي الله عنه- نهى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن يخطب في الناس في أمر سياسي يخص الإمامة، بسبب مقالة سمعها من أحدهم أراد أن يحذر منها، وبين له السبب في هذا؛ فالناس فيهم الجاهل الذي لا يفهم الكلام ولا يضع المقالة في موضعها الصحيح، وربما تنتشر المقالة فتفهم على غير وجهها –هذا مع فصاحة الناس ودقة القول– فيؤدي هذا إلى فتنة مستطيرة، وشر يعم الناس، وأمره أن يجعل هذا في أشراف الناس وعلمائهم وفقهائهم فهم العارفون بخفايا الأمور، والمدركون لما لا يدركه عوام الناس.
قلت: هذا في زمانهم فكيف في زماننا؟
مرحبا بالوعظ الذي يجمع ولا يفرق، ويصلح ولا يفسد، ويقمع الفتنة قمعا ولا يوقظها أو يغذيها.
علينا أن ننأى بالمنابر وبالوعظ أن يلتبس بغوامض الآراء السياسية ودهاليزها، والدعوات الحزبية ومنعرجاتها؛ لا سيما في هذه الأزمان التي كم تختلط فيها الأمور، ويحار في أحداثها الحكيم.