من المعروف أن مرتكبي الجنايات غالبا لا يسهل عليهم ارتكابها في حقّ ضحاياهم، ما لم يسبق ذلك انعدام أو نقص في الشعور بإنسانية الضحيّة. فإدراك إنسانية الآخر بشكل كامل هو الوقاية الأعظم من إمكانية التجاوز عليه. ويتم نزع الشعور بإنسانية الآخر عادة بواسطة إحدى حيلتين نفسيتين، وهما تكريس شيطنته أو تشييؤه. فتمثيل الشيطان للشر يسوغ للنفس التجاوز عليه بحجة الدفاع عن الخير، وآلية الشيطنة من الآليات الفعالة التي ينهجها مرتكبو العنف الأيديولوجي ضد ضحاياهم في سبيل تسوية جرائمهم وتسويغها أمام ضمائرهم. أمّا آلية التشييء أي خلع الضحية من إنسانيتها بواسطة النظر إليها كشيء فقط، فهي تعتمد على التجاهل التام لما يمكن أن ينبعث عن الضحية من أفكار أو مشاعر واعية بالألم تجاه ما تتعرض له من أذى، وهذه هي الآلية التي طالما استعملها المتفوقون طبقيا في سبيل تبرير تعدياتهم على الآخر الأضعف وتطبيعها أمام ذواتهم.
المتحرش جنسيا لا يختلف في هذا الأمر عن سواه من مرتكبي الجنايات، إذ لا شيء يحول دون تورطه في التحرش بضحيته مثل استقرار الوعي بإنسانيتها وإدراك كل ما يتعلق بتلك الإنسانية من سمات تيسر للجاني تقمص مشاعر الضحية وأفكارها عند تعرضه لنفس ما تتعرض له من ألمٍ جراء وقوع الجناية.
عند الوعي بهذا الجزء من طبيعتنا البشرية، علينا أن نتصور كيف سيكون حال شابّ ينشأ في ظل خطاب ثقافي يتورط في (شيطنة) المرأة أحيانا، ويتورط في (تشييئها) أحيانا أكثر. وكيف ستكون قدرة تقمصه مشاعر المرأة عند تعرضها للأذى، أو إمكانية أن يتساءل ذلك الناشئ عن شعوره لو وجد نفسه في وضع مماثل لوضع امرأة ما في ظرف من الظروف. إن الفكرة بحسب توقعي لن تكون مطروقة في ذهنه أصلا، ولا شيء أصحّ دلالة على ذلك من مجتمعاتنا. حيث يستطيع الرجل لدينا أن يحاكم نفسه من خلال وضعها افتراضيا مكان الآخر الفقير، أو الآخر المختلف عرقيا أو الآخر الطفل وغير ذلك، ولكن مجرد افتراض إمكانية وقوعه مكان امرأة لا يمر دون الشعور بالخزي من الافتراض نفسه، فالشعور بنقص آدمية المرأة مستقر في الرجل بشكل عميق لا يسهل النيل منه أو زحزحته.
هذه حقيقة لا مبالغة فيها بنظري وعلى الجميع مراجعة الأمر مع أنفسهم بمسؤولية. من المؤسف أن النظرة إلى المرأة بوصفها شيئا غير مكتمل الآدمية يتم تكريسها في ذهن الناشئ (السعودي) عبر قناتين لهما فعالية كبرى في تكوينه الإدراكي. يشكل الخطاب الوعظي الدعوي أولى هاتين القناتين، حيث تحضر المرأة في خطابنا بالدرجة الأولى كعورة جسدية، ويتراجع حضور مكوناتها الإنسانية الأهم، حيث يندر أن يتحدث أحد عن عقل المرأة أو روحها إلّا في سياقات سالبة لمظاهر ذلك العقل وتلك الروح. الأمر في ذلك هو الأصل الذي يفتش فيه عن استثناءات وليس العكس، وقد تكفي الإشارة هنا إلى ما يقوم به الوعاظ عند التحذير من "استهداف المرأة بالتحرش" من الضرب على وتر ما يشعر به ذوو هذه المرأة من أذى في المقام الأول، وليس ما تشعر به هي عند النيل منها، في تجاوز مكشوف لمعنى كرامتها الآدمية. أما القناة الأخرى التي تكرس هذه النظرة وتعمقها فهي الخطاب المُتلقّى عبر وسائل الإعلام التي تحضر فيه المرأة كسلعة تسويقية بشكل رئيس من خلال تكثيف البعد الجسدي لها، وإقصاء الأبعاد الأخرى من إنسانيتها بطريقة مشابهة لما يفعله الخطاب الدعوي المحلي وإن خالفه في الاتجاه، والأمر في ذلك مستغنٍ عن ضرب الأمثلة أيضا.
تحت وقع هاتين القناتين اللتين تطرقان باستمرار على العصب الإدراكي للشاب (السعودي)، فإن شعوره بإنسانية المرأة وحيلولة ذلك دون التعامل معها كهدف غريزي يصبح أمرا في غاية الصعوبة. قد تسهم القيود الاجتماعية في منع ذلك الاستهداف من الظهور إلى السطح بالطريقة التي تعرضه للإدانة فحسب، ولذلك فإن طغيانها على السطح الواعي من السلوك لا يعد أمرا مفاجئا مع أول تخلص من تلك القيود الاجتماعية، فهي لا تعد أكثر من روادع خارجية يسهل خلعها بنفس سهولة ارتدائها، كالسفر بعيدا عن المحيط، أو الاختباء في الحشد، أو غير ذلك من الظروف التي تتراجع فيها المسؤولية الفردية عن الأفعال والسلوكيات. ولا يثير استغرابي -في الحقيقة- أن تنقل إلينا وسائل التواصل الاجتماعي حالات تحرش منعكسة عن وجود بعض شبابنا في ظروف كتلك مع الهدف الذي نشأوا على إمكانية استهدافه بغرائزهم الكامنة لا بمشاعرهم الإنسانية الأرقى.
يؤسفني أن أقول بأن التحرش ليس حالا عرضيا في واقعنا، بل هو أمر ناتج عن "صناعة" وجاهزية ذهنية مسبقة، ولا سبيل حقيقية للخروج من آثارها بغير إعادة صياغة خطابنا الثقافي بشكل يستوعب الإنسانية الكاملة للمرأة، فالمفترض أن تكفي المرأة نظرة استنكار تلقيها باتجاه الشاب لتردعه عن جرم انتهاكها كإنسان، لا كمجرد غرض يخص الآخرين، حدث أن صادفه في طريقه لا أكثر.