كان من غير الإنصاف أن تمر المقالة التي كتبها الأمير بندر بن سلطان "سفير بلادنا السابق" في واشنطن دون تأمل لمحتواها، ولن أدخل في التفاصيل جميعها، فالاتفاق النووي مع إيران تم ولا حيلة لنا عليه، لكنّ ما يهمنا جزء واحد من رسالة الأمير أصابنا جميعا بالدهشة، ليس لأننا لا ندرك أو لم ندرك معناه؛ بل لأنّ من تمثل بالاستشهادات هو عرّاب السياسة السعودية مع أميركا.

يقول الأمير بندر بن سلطان، إنه يدرك ويعي السياسة الخارجية الأميركية، واستدل عليها برسالة وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر التي فحواها "على أعداء أميركا أن يخشوا أميركا، لكن على أصدقائها أن يخشوها أكثر"، وإن كان الأمير السفير هو المطلع الأكبر على الحال الأميركية أكثر من غيره، أو ليس القرار والتوصيات أن تنتهج سياستنا الخارجية من منطلق هذا المفهوم مسارات كثيرة، وأن تعقد صداقات ولنقل تحالفات متعددة، لا.. أن نضع كل بيضنا في سلة واحدة.

إن كان هناك من يتحمل هذا الأمر فهو سفيرنا في أميركا الذي عاصر ستة رؤساء، والذي وحتى بعد استقالته كنّا ندرك أنه ضابط السياسة والتعاون والتلاقي مع أميركا، وعليه حُقّ لنا أن نسأل: كيف خُدعنا من أميركا، وسفيرنا العتيد الخبير يدرك سياساتها ويعي تقلباتها وعدم ثباتها، والأسوأ انقلابها على أصدقائها؟!

ألم يسأل الأمير بندر عن أهم أسباب قيام الاتحاد الأوروبي أو لم يدرك أنهم لا يثقون في أميركا، وارجع إلى تصريحات الداعي الأكبر لقيام الاتحاد الرئيس الفرنسي السابق "جيسكار ديستان"، بل هل اطلع سمو السفير على الوثيقة الاستراتيجية القومية للأمن الأميركي عندما تم الكشف عنها وعن أهدافها أمام الجمهور الكبير، بتاريخ 8 مارس 1992، ونشرتها النيويورك تايمز، وأهم ما فيها أنه يجب على الولايات المتحدة القيام بكل شيء من أجل ردع كل خصم محتمل -من بين البلدان المتقدمة المصنعة- يحاول تحدي هيمنة الولايات المتحدة وزعامتها حتى لو كان أحد حلفائها في أوروبا؟ وعليه لماذا بقينا تحت رحمة أميركا نبرّ بها ونحن ندرك أنها لا تستمر على حليف ولا على صديق؟

سمو الأمير نحن البسطاء الذين لم ندخل معترك سياسة، ولا نعرف لقاء مع رئيس نؤمن كل الإيمان أن أميركا تسير خلف مصالحها ولا يعنيها بلد بعينه، ومثلك نستشهد بالسياسي المحنك هنري كيسنجر حينما قال عيانا بيانا "ليست أميركا مسؤولة عن حل مشكلات العالم، بل يجب أن تُحرِّك أميركا خيوط هذه المشكلات وفق ما تقتضيه المصلحة الأميركية" وفعلا حركت خيوط اللعبة واستنفذت اقتصادات الخليج خلال حروب لم تكن لتحدث لو لم تنفخ فيها أميركا من خلال "شيطنة" العدو والتهويل من خطره، ومن ثم إثارة هلعنا ورعبنا؛ لنبحث عمن ينقذنا من هذا العدو.. وبالطبع أميركا جاهزة!

سمو السفير حقبتك في أميركا عرفت أشد المفاجآت التي غير بعضها وجه الشرق الأوسط، والمنطقة الآن تدفع ثمن ذلك ويبدو أن إبراز الشخصية العلاقاتية السياسية السعودية الجديدة قد تم من خلال قرار الملك سلمان -حفظه الله- تطهير اليمن، كحقبة جديدة ترفع شعار أن لا صداقات دائمة، ولا تلقي إملاءات من الخارج تخالف المصلحة العامة.. نعم، لقد تعلمنا الدرس وحتى إن كان متأخرا، وسنقرأه جيدا حتى لو تم من خلال منظور الأميركيين بأن "لا صداقات دائمة، ولا عداوات دائمة بل مصالح قائمة"، ومع ذلك كنّا نتمناه منذ زمن ومن سفرائنا المطلعين أكثر على السياسة الأميركية وتبدلاتها!.