نشرت "الوطن" قبل أسابيع تقريراً صحفياً عن لجوء "وزارة الصحة إلى إيقاف تنفيذ عشرات العقود.. انطوت في مجملها على شبه فساد"، حيث تم "إيقاف عقد تدريبي بقيمة 8.9 ملايين ريال.. وعقد مع إحدى المؤسسات الإعلامية بمبلغ 1.7 مليون ريال"، إضافة إلى حملة إعلامية بقيمة 10.3 ملايين ريال، كما "تعاقدت الوزارة بمبلغ 14.7 مليون ريال بهدف الإشراف ومتابعة الشركات التي تعاقدت معها الوزارة في تنفيذ وتدريب الممارسين الصحيين لمكافحة العدوى"!.
وتتمثل شبه الفساد في تلك العقود في أنها ليس لها علاقة بإجراءات مكافحة العدوى والوقاية منها، وقد يقول قائل: "بأن هذا الكلام غير صحيح، فتلك العقود تتعلق بتدريب الموظفين في كيفية التعامل مع مرض (كورونا)، إضافة إلى توعية الناس للوقاية من الفيروس الخطير.. فأين هي شبه الفساد؟".
البعض علّق على هذه القضية بالقول بأن تلك العقود لم تكن "عادية، بل إدارة أزمات"، وبسبب انتشار المرض، كان من الضروري أن يتصرف الوزير بشكل عاجل، أما فيما يتعلق بإلغاء بعض العقود التدريبية فكانت بسبب ضعف الشركة وتدني جودة التدريب، وهذا أمر عادي نجده في جميع الجهات الحكومية، وقرار وزارة الصحة بإيقاف تنفيذ العقود والقيام بالتحقيق هو إجراء روتيني الهدف منه تقييم أداء الشركات والمؤسسات المتعاقد معها، كما يرى البعض أن الوزارة حققت نجاحاً كبيراً في مكافحة فيروس كرونا، والدليل على ذلك انحسار المرض بنسبة عالية حسب الإحصائيات الصادرة عن الوزارة!.
ورغم الوجاهة المنطقية للمبررات السابقة التي ساقها البعض، تبقى هناك أسئلة كثيرة تتعلق بأداء وزارة الصحة في مجال مكافحة فيروس كورونا، هذه الأسئلة نطرحها ضمن عناصر رقابة الأداء المعروفة دولياً وهي (الاقتصادية، والكفاءة، والفاعلية)، وذلك على النحو التالي:
أولاً/ هل هناك إسراف وتبذير في عمليات الصرف على برنامج مكافحة فيروس كرونا؟، وبناءً على هذا السؤال يتم وضع أهداف فرعية، منها على سبيل المثال: دراسة وتحليل عينة من العقود المبرمة بين وزارة الصحة والشركات والمؤسسات، وهذا التحليل يشتمل على مدى الحاجة لتلك العقود، والتحليل التفصيلي لأسعار البنود ومدى عدالتها، ومن خلال هذا التحليل ودراسة أنظمة الرقابة الداخلية، نستطيع الكشف عن أوجه الفساد إن وجدت في العقود (عنصر الاقتصادية).
ثانياً/ هل يتم استغلال الموارد البشرية والمادية بالشكل الأمثل في مكافحة مرض كرونا؟ ومن أمثلة ذلك: تحليل الإجراءات التشغيلية المتعلقة بمكافحة المرض ومدى تطبيقها على أرض الواقع، وكذلك بالنسبة لتحليل الاحتياجات التدريبية وقياس أثر التدريب، ومدى كفاءة الأجهزة الطبية المستخدمة في رصد وتحليل المرض، إضافة إلى دراسة واقع برنامج مكافحة العدوى لعينة من المستشفيات الحكومية، كما يجب دراسة التقارير والنماذج المستخدمة، وتحليل عملية الإشراف والمتابعة (عنصر الكفاءة).
ثالثاً/ هل الإحصائيات الخاصة بمرض كورونا والصادرة عن وزارة الصحة ذات مصداقية ويمكن الوثوق بها؟، فوزارة الصحة تصدر إحصائيات يومية وأسبوعية وشهرية وسنوية عن مرض كورونا، وتتضمن هذه الإحصائيات مؤشرات تتعلق بمدى تقدم أو تراجع المرض، وهذه المؤشرات تعتبر مقاييسا لمدى نجاح الوزارة في مكافحة المرض، وبالتالي يجب التأكد من مصداقية هذه الإحصائيات من خلال تقييم قواعد البيانات والتعرّف على آليات رصد المرض وكيفية الإبلاغ عنه سواء في المستشفيات الحكومية والخاصة أو المراكز الصحية والمستوصفات، ومن ثم يتم تحديد مدى نجاح الوزارة أو فشلها في مكافحة المرض (عنصر الفاعلية).
هذا باختصار شديد لكيفية الرقابة على أداء وزارة الصحة في مجال مكافحة فيروس كرونا، علماً بأن هناك إجراءات فنية أخرى تتعلق بهذا النوع من الرقابة لم يتم التطرق إليها بسبب طابعها الفني البحت مثل عمليات المسح المعلوماتي وتقييم المخاطر وأنظمة الرقابة الداخلية، ولكن ما يهمنا في هذا الموضوع هو قياس أداء الوزارة في مجال مكافحة العدوى وما إذا كانت هناك شبه فساد أم لا، وقد يتساءل القارئ الكريم عن الجهة المسؤولة عن رقابة الأداء الحكومي؟
هناك عدة جهات مختصة، وأولها إدارة المراجعة الداخلية في وزارة الصحة نفسها، إضافة إلى الجهات الرقابية المتخصصة، ولكن للأسف الشديد فإن رقابة الأداء لم يتم تسليط الضوء عليها بالشكل المطلوب في اللائحة الموحدة لوحدات المراجعة الداخلية في الجهات الحكومية، فضلا عن تراجعها وضعفها في ديوان المراقبة العامة، وربما يكون هذا الرأي هو التفسير الوحيد لصمت الأجهزة الرقابية عن شبه الفساد الموجودة في عقود وزارة الصحة.
إضافة إلى ما سبق، فإن مكافحة العدوى تعد من الأمور الأساسية والجوهرية للعناية بالمرضى، وهذا الأمر في الحقيقة لم ينل بعد الأهمية والعناية المطلوبة، سواء من المسؤولين أو العاملين في القطاع الصحي، فحتى تاريخ كتابة هذه السطور لا توجد قوانين وأنظمة ملزمة تتعلق بمكافحة العدوى في القطاع الصحي، وبالتالي عدم وجود عقوبات وجزاءات واضحة للمخالفين في هذا المجال، حيث إن هناك غيابا واضحا للعقوبات في المجال الحكومي بالذات، حيث يكتفى إما بالتنبيه فقط في معظم الأحيان أو إجراء التحقيق إن لزم الأمر دون وجود مساءلة حقيقية.
صحيح أن هناك سياسات وإجراءات مكتوبة تتعلق بمكافحة العدوى في المستشفيات وهناك لجان خاصة بالجودة تتأكد من تطبيق هذه السياسات، بل وهناك لجان وإدارات متخصصة في مكافحة العدوى بشكل عام، ومع ذلك هناك خلل في تطبيق هذه الإجراءات إضافة إلى عدم فاعلية برامج المكافحة بشكل عام، وأحد أسباب هذه الإشكاليات، الفراغ التشريعي المتمثل في عدم وجود النظام وغياب العقوبات الرادعة، لذا ستظل مكافحة العدوى إدارة أزمات على المدى الطويل، مع زيادة الإنفاق المالي على مخصصات البرامج وكثرة التعاقدات والصفقات مع الشركات والمؤسسات فتكثر معها شبه الفساد!