لو كان (فيثاغورس) لصا فإن مربع الوتر في المثلث القائم سيكون مساوياً لمجموع مربعي الضلعين الآخرين، لا أعرف أين قرأت أو سمعت هذه العبارة، لكنها تخزني حين أنجرف بمشاعري، وأبدأ بتقييم مبدع ما بناءً على موقف شخصي.

ومضمون العبارة هو تكثيف بليغ للغاية لفكرة يمكن اعتبارها بدهية عقلياً، وهي ألا علاقة بين المواصفات الشخصية وبين النتاج العلمي أو الإبداعي للشخص، فالمطرب صاحب الصوت الجميل، لن يصبح صوته قبيحاً إذا ما كان له موقف سيئ من قضية ما، والشاعر والممثل وخبير العدسات لن يفقدوا مهاراتهم المهنية وأهميتهم، لو كانت لهم أخطاء شخصية. كلنا ندرك صحة هذه الفكرة وكلنا نخالفها، ولا بد أن كل واحد منّا ضبط نفسه متلبساً مرات عدة بمواقف وتقييمات تخالفها، ونجا "من نفسه" في مرات أكثر بكثير.

في الفترة الأخيرة، دارت نقاشات كثيرة في الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي حول هذه النقطة بالذات، وخصوصاً حول كتّاب وفنانين لهم مواقف متباينة من هذا النظام أو ذاك، من هذه القضية أو تلك.

كلنا يذكر السجالات التي أثارتها جملة قالها الشاعر اللبناني سعيد عقل في لقاء تلفزيوني أواخر السبعينات من القرن الماضي بخصوص الإسرائيليين والفلسطينيين، لم تثر كثيراً من النقاش في وقتها، لكنها تصدرت اهتمام الصفحات الثقافية وصفحات التواصل حين إعلان وفاته، والآراء التي أطلقت بخصوصها هي الآراء الإنسانية الطبيعية التي تعبر عن التنوع البشري، فمن قائل إن شخصاً يطلق موقفاً عنصرياً تجاه شعب كامل لا يمكن أن يكون شاعراً حقيقياً، إلى قائل إن العبارة هي خيانة للانتماء العروبي للشاعر، وهي تنفي عنه شاعريته التي كان تتويجها في القصائد التي كتبها للمدن العربية، وأشهرها قصائد دمشق التي غنتها فيروز، إلى ثالث يفصل تماماً بين شاعرية الرجل وشعريته وبين مواقفه الشخصية.

أثار حرف (ط) مخفف زوبعة نقاش مشابهة، وتم تحميله ما لا طاقة به، وحرف الـ (ط) الذي لفظته المطربة اللبنانية (أليسا) مخففاً على شكل حرف (ت) في أغنية موطني، وانقسم موقف الناس بين مدافع وساخر وغاضب، ومحور النقاش لم يكن بالطبع صوت المطربة أو أداءها للأغنية، ولا إعادة توزيع اللحن، بل كان محوره قضايا لا علاقة لها بتاتاً بالأغنية أو بفن الغناء من أصله، فمن هاجموها فعلوا ذلك استناداً إلى موقف عام من اللبنانيين، أو من المرأة أو من المرأة الفنانة، ومن دافعوا عنها فعلوا ذلك استناداً إلى موقفها من الثورة السورية.

والثورة السورية هي المناسبة التي قسم الناس -على أساس الموقف منها- تقييماتهم الفنية والأدبية والعلمية وحتى الرياضية والعائلية.

فـ (دريد لحام) ليس "غوار الطوشة" ولم يكن يوماً فناناً مهماً، وغوار الطوشة في الحقيقة هو نهاد قلعي الذي ابتدع هذه الشخصية وطورها وكتبها "وهو تقييم غير محقق وغير قابل للتحقق"، (ليلى عوض) أهم بكثير وهي نموذج الفنانة الملتزمة والمبدعة.

على الجانب الآخر، هناك على ضفة المؤيدين رفعوا دريد لحام إلى مرتبة البطل الوطني، وألغوا (فارس الحلو) من خارطة الدراما والسينما السوريتين. ومارسوا الإلغاء والتشبيح الثقافي وتهم الخيانة والعمالة، بحق كل من خرج عن الخطاب "الوطني" ولو بحرف واحد.

وهكذا تقاسم السوريون (عبدالمنعم عمايري ومكسيم خليل، أمل عرفة وكندة علوش، ميادة بسيليس وأصالة، جمال سليمان وأيمن زيدان، محمد ملص وهيثم حقي).

وتقاسموا أيضاً الرياضيين والصحفيين والكتّاب، رفعوا من يرونه معهم إلى عليين، وأنزلوا من يرونه مخالفاً لهم إلى أسفل السافلين.

وهذا التقاسم بالطبع تم على أسس ومعايير لا علاقة لها بفن هؤلاء أو نتاجهم أو إبداعهم. وفي حقيقته العميقة كان موقفاً عشائرياً قائماً على ثنائية النحن/هم (الأخيار/ الاشرار). قبيلتنا هي الأشرف، وفارسنا هو الأشجع، وشاعرنا هو الأنبغ حتى لو لم يكن شاعراً!