العام الماضي، وفي مثل هذه المناسبة السعيدة كتبت مقالي بعنوان: من "المعنى السياسي للعيد"، الذي لخص فيه الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي، الملقب بـ(معجزة الأدب العربي) بعض مشاعره عن العيد.. هذه المرة سأتوقف عند مقالة أخرى لأديبنا نفسه، عن المناسبة ذاتها، عنوانها (اجتلاء العيد). قال فيها: "جاء يوم العيد، يوم الخروج من الزمن إلى زمن وحده لا يستمر أكثر من يوم.. زمن قصير ظريف ضاحك، تفرضه الأديان على الناس؛ ليكون لهم بين الحين والحين يوم طبيعي في هذه الحياة التي انتقلت عن طبيعتها.. يوم السلام، والبشر، والضحك، والوفاء، والإخاء، وقول الإنسان للإنسان: وأنتم بخير.. يوم الثياب الجديدة على الكل؛ إشعارا لهم بأن الوجه الإنساني جديد في هذا اليوم.. يوم الزينة التي لا يراد منها إلا إظهار أثرها على النفس ليكون الناس جميعا في يوم حب.. يوم العيد؛ يوم تقديم الحلوى إلى كل فم لتحلو الكلمات فيه.. يوم تعم فيه الناس ألفاظ الدعاء والتهنئة مرتفعة بقوة إلهية فوق منازعات الحياة.. ذلك اليوم الذي ينظر فيه الإنسان إلى نفسه نظرة تلمح السعادة، وإلى أهله نظرة تبصر الإعزاز، وإلى داره نظرة تدرك الجمال، وإلى الناس نظرة ترى الصداقة.. ومن كل هذه النظرات تستوي له النظرة الجميلة إلى الحياة والعالم؛ فتبتهج نفسه بالعالم والحياة.. وما أسماها نظرة تكشف للإنسان أن الكل جماله في الكل".

الرافعي في لوحته البديعة يتمم قائلا: "خرجتُ أجتلي العيد في مظهره الحقيقي على هؤلاء الأطفال السعداء، على هذه الوجوه النّضرة التي كبرت فيها ابتسامات الرضاع فصارت ضحكات، وهذه العيون الحالمة التي إذا بكت بكت بدموع لا ثقل لها؛ وهذه الأفواه الصغيرة التي تنطق بأصوات لا تزال فيها نبرات الحنان من تقليد لغة الأم.." -ويضيف بعد سرد رائع- : "الطفل يقلَّب عينيه في نساء كثيرات، ولكن أمّه هي أجملهن وإن كانت شوهاء؛ فأمه وحدها هي أمُّ قلبه"، ثم لا معنى للكثرة في هذا القلب هذا هو السرُّ؛ خذوه أيها الحكماء عن الطفل الصغير.. تأملت الأطفال، وأثر العيد على نفوسهم التي وسعت من البشاشة فوق ملئها؛ فإذا لسان حالهم يقول للكبار: (أيتها البهائم، اخلعي أرسانَكِ ولو يوما.. أيها الناس، انطلقوا في الدنيا انطلاق الأطفال يوجدون حقيقتهم البريئة الضاحكة، لا كما تصنعون إذ تنطلقون انطلاق الوحش يوجد حقيقته المفترسة) -ثم يختم بعد كلمات بديعة-: "فيا أسفا علينا نحن الكبار! ما أبعدنا عن سر الخلق بآثام العمر!.. وما أبعدنا عن سر العالم بهذه الشهوات الكافرة التي لا تؤمن إلا بالمادة!.. يا أسفا علينا نحن الكبار! ما أبعدنا عن حقيقة الفرح!.. تكاد آثامنا -والله- تجعل لنا في كل فرحة خَجْلَة..".

الرافعي -رحمه الله- عزف مقطوعته (اجتلاء العيد) بعد أن بحث عن العيد في زمنه الجميل، وكم أتمنى لو أن كل واحد منا قام بالكتابة أو فتح نقاشا عن (اجتلاء العيد) في زماننا؛ عندها سنعرف كيف كانوا، وكيف نحن الآن.. عيد من لا يعرف قيمة العيد أضحى وقتا للنوم المعنوي قبل الحسي، ويظنونه كذلك، والحقيقة أننا قادرون على أن نجعله عيدا سعيدا إذا أحسنا فهم معانيه الحقيقية التي تتمثل في نشر الأفراح مهما حاولت الأحزان أن تسحبنا تجاهها.