"لماذا أكثر المتطرفين، الانتحاريون منهم والتكفيريون، الذين يقاتلون في صفوف داعش والنصرة هم توانسة، من أصل تونسي، عاشوا في المغتربات أو في تونس ذات الحكم العلماني الصارم على مدى 4 عقود؟ سؤال لطالما طرحته على نفسي منذ انطلاق الثورة السورية قبل 4 سنوات وحتى اليوم، وربما طرحه ويطرحه آخرون غيري، وتزيد حيرتي في العثور على الجواب المناسب حين أتذكر أن الثورة الوحيدة التي وضعت قدمها على طريق الاعتدال ودولة الحريات والحقوق والمؤسسات هي الثورة التونسية، قياسا بالانتفاضات والثورات العربية الأخرى في سورية ومصر وليبيا واليمن، تلك التي تعثرت وما تزال، لأسباب عامة، أو خاصة تتعلق بمعطيات وظروف كل منها.
لهذه الظاهرة، مثلها مثل غيرها من الظواهر الملتبسة، أسباب واضحة ومبهمة، مفهومة ومربِكة، مباشرة ومواربة.
الجهل واحد من أقوى العناصر المرشحة لتحليل ظهور التطرف في المشهد العربي ككل لا التونسي فقط، والجهل هنا يقوض أدنى فرصة معرفية لإقامة علاقة متوازنة مع الدين الإسلامي وإبراز الروح السمحة فيه، وبحضوره تغيب عن المنابر والخطب والساحات حناجر العقلاء، منكفئة في عقر عجزها أمام أصوات وعقول موتورة، غير قابلة لإطلاق مسيل الرحمة الإسلامية ولا الدعوة إليها بالتأكيد، وهكذا لا نسمع، إلا فيما ندر، خطيبا يروي لنا قصة فتح مكة حين توجه النبي محمد إلى المشركين ممن قاتلوه وأخرجوه من دياره وعذبوه، حينها قال لهم: "ما ترون أني فاعل بكم"؟ فردوا والخوف يملأ قلوبهم: "أخ كريم وابن أخ كريم"، وكان جوابه الشهير والجميل: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
في الجنون الراهن إذن تغرد الأصوات المعتدلة خارج حفلة الشواء هذه، وأي صرخة لإطفاء نار الموقد تبدو بائسة، فما الجدوى من وجود عشَرة رجال دين مسلمين يتحدثون عن الدار الآمنة لأبي سفيان في ظل هذا الهذيان الجماعي؟ أو التذكير بأن الإسلام جاء رحمة لا نقمة "ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، والعالمين تعني كل الناس لا للرسول أو أهله أو قريش أو العرب أو المسلمين فقط.
الفقر الذي لو كان رجلا لقتله الإمام علي بن أبي طالب، وأيضا أنا، واحد من أعمق الأسباب التي تدفع الشباب العربي إلى العنف والغلو والتطرف، وإذا ما تذكرنا حادثة الشاب "البوعزيزي" الذي أحرق نفسه، التي كانت شرارة لاندلاع الثورة التونسية، يتضح معنى ما نريد.
ملايين من الشباب العاطلين عن العمل في تونس، خلال السنوات السابقة من الانتفاضة وجدوا أنفسهم ملقين على قارعة الطريق دون دخل يسد احتياجاتهم أو حكومة تتنبه إلى خطر بطالتهم بالمعنيين المادي والفكري، إلى أن جاءهم "داعش" مارد الفانوس السحري، حيث حقول النفط والغاز في سورية والعراق، وحيث المال والنساء والسلاح ومظاهر القوة وحياة المغامرات الجذابة والموت "الملحمي" المفضي إلى "الجنة" والنجومية.
العاملان السابقان رغم أهميتهما لا يقدمان تفسيرا شافيا لظاهرة الغلو والعنف "التونسي" على وجه الخصوص، إلا أن الديكتاتورية الطويلة تستطيع.
منذ الاستقلال في الخمسينات وحتى اندلاع الثورة عاشت تونس 50 عاما ونيفا من حكم الحزب الواحد والفرد الواحد والعائلة الواحدة في إقصاء كامل لأي معارضة سياسية أو إعلامية أو فكرية أو دينية بشكل رئيسي، وامتلأت السجون والمنافي بآلاف التونسيين الملاحقين والمغضوب عليهم، وفيما كانت علمانية بو رقيبة وبن علي تثلج صدور الماركسيين والليبراليين، كان البعض الآخر يرى في منع الحجاب والصلاة والصيام وتعدد الزوجات الذي فرضه الرئيسان السابقان قهرا وتطرفا وقمعا لحرية العبادة وممارسة الشعائر الدينية التي يفترض أن يوفرها القانون في الدول العلمانية، وهنا في رأيي يكمن جذر العنف التونسي الذي نراه اليوم يعبر عن نفسه ويتنفس في سورية عبر "داعش" الذي يلبي هذا الجنوح للانتقام من علمانية فاشية تطرفت في شعائرها عبر قمع شعائر المتدينين.
غير مفاجئ أن تولد الديكتاتوريات الطويلة طبقة سياسية انتهازية مرائية ومنافقة من جهة وتيارات عنيفة ومتطرفة من جهة ثانية، إلا أن المفاجئ اعتقاد البعض أن العلمانية تعني قمع الحريات الدينية المفصولة عن السلطة، وإذا كانت محاربة الإرهاب تقتضي محاربة المتطرفين والغلاة دينيا، تصبح إضافة مثل "الغلاة دينيا وفكريا"، ضرورة لغوية وأخلاقية ووطنية، لمحاكمة دواعشنا العربية المتنوعة بما فيها "داعش العلمانية".