بعد دقائق من توقيع الاتفاق حول النووي الإيراني في فيينا، ظهر الرئيس الأميركي باراك أوباما أمام الصحفيين وإلى جانبه نائب الرئيس جون بايدن، ليكرر ما قاله على إثر إعلان اتفاق النوايا في لوزان. فكرر الحديث عن نجاح الديبلوماسية الأميركية، مقتبسا قولا للرئيس كينيدي "علينا ألاّ نفاوض أبدا تحت وطأة الخوف. ولكن علينا ألاّ نخشى أبدا التفاوض"، مؤكدا على صوابية توجه إدارته بالسعي إلى هذا الاتفاق.
وكان واضحا أنه أمام تحدٍّ قد يكون أصعب من التفاوض الذي دام سنوات، وهو إقناع الأميركيين بأهمية الاتفاق وصوابيته عبر مجلسَيْ النواب والشيوخ ذَوَي الأغلبية الجمهورية، مهددا باستخدام حق النقد في حال رفض الكونغرس التصديق على المعاهدة.
ثم توجه إلى الحليف التاريخي والابن المدلل للولايات المتحدة الأميركية، إسرائيل، التي سارعت إلى رفض الاتفاق واعتباره غير ملزم لها فيما يحقق أمنها الاستراتيجي، معتبرة أن الاتفاق أنتج دولة نووية جديدة في الشرق الأوسط. ثم توجه أوباما أيضا إلى أصدقائه في المنطقة عبر مخاطبة المملكة العربية السعودية؛ محاولا استعادة الثقة المفقودة بين العرب وإدارة أوباما في أكثر من موضوع وقضية، من العراق إلى سورية إلى فلسطين إلى لبنان وصولا إلى اليمن.
في المقابل بدأ الإيراني محاولة تقديم نفسه على أنه دولة جوار تريد التعاون مع جوارها العربي، مع أن السنوات الطويلة الماضية والأيادي السوداء الإيرانية كانت ولا تزال تعبث باستقرار المجتمعات والدول العربية، إذ تسببت في مئات آلاف القتلى وملايين المهجرين، مع إثارة النعرات المذهبية البغيضة في كل بيئة عربية.
إن ما شاهدناه بعد الساعات الأولى من توقيع الاتفاق يجعلنا نعتقد أن التفاوض على تسويق الاتفاق سيكون أكثر تعقيدا من الوصول إلى الاتفاق نفسه، وأن أزمة الثقة بين طرفَيْ الاتفاق والمنطقة تزداد عمقا يوما بعد يوم؛ لهذه الغاية سيتوجه وزير الدفاع الأميركي هذا الأسبوع إلى كل من إسرائيل والسعودية لشرح الاتفاق، محاولا التخفيف من أزمة الثقة، والتأكيد على الحرص الأميركي على الحلفاء والأصدقاء. رغم أن في هذا المجال يصح القول "سبق السيف العذل"، فلقد أعطت الولايات المتحدة إيران جائزة كبرى، سياسية وعسكرية واقتصادية عبر هذا الاتفاق.
سيبدأ وزير الخارجية الإيراني بزيارة كل من قطر وعمان وربما دول أخرى في الخليج، لإظهار إيران على أنها تريد إعادة رسم العلاقات مع جوارها على قاعدة اتفاقها النووي وعودتها إلى المجتمع الدولي.
وكانت إيران قد توجهت عبر أحد كبار مسؤوليها بشكر خاص للسلطان قابوس ولدولة عمان، لمساهمتها الكبيرة في إنجاز هذا الاتفاق. وأرادت بذلك أن تقول إن العرب شاركوا في صياغة هذا الاتفاق.
إن كل تلك المشاهد والخطابات التي رأيناها وسمعناها خلال الأيام الماضية تطرح أسئلة جديدة حول كيفية إعادة الثقة بين الولايات المتحدة الأميركية وأصدقائها في المنطقة، وبالذات المملكة العربية السعودية التي تضع أولوية استقرار دول المنطقة وسلامة دولها في رأس اهتماماتها، بدءا من اليمن ووصولا إلى سورية والعراق، وطبعا القضية المركزية التاريخية للعرب وهي إقامة دولة فلسطينية واستعادة القدس الشريف. وهي ترى أنّ الولايات المتحدة لو أعطت لتلك القضايا الاهتمام اللازم لما تأزمت، ولما وصلت إلى ما هي عليه الآن، خصوصا إقامة الدولة الفلسطينية التي شهدت موجات من التفاوض غير المجدي على مدى عقود طويلة لم تظهر خلالها الولايات المتحدة الاهتمام والحزم المطلوبَيْن لإقامة الدولة الفلسطينية، كما ادّعى أوباما في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2010، عندما قال: "أريد أن أرى في العام القادم فلسطين دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة.."
إن تحديات الولايات المتحدة في إعادة بناء الثقة مع الدول العربية قضية معقدة وصعبة. ولا أرى أن ما تبقى من ولاية الرئيس الأميركي أوباما يكفي لإعادة بناء جسور الثقة بين أميركا والعرب، لأن أثمان التفاوض على النووي الإيراني كانت كلها بدماء الشعوب العربية، وعلى حساب استقرار دولها ووحدتها.
أما إيران، فإن حديثها عن حسن الجوار وبناء الثقة مع جوارها العربي هو أمر أشبه بالخيال، ويدخل في دائرة المستحيل؛ لأن إيران ستزداد غطرسةً واعتداء على جوارها أكثر مما مضى.
ونستطيع أن نقول: إن الاتفاق النووي قد عمق الثقة بين إيران وأميركا، وأفقد الثقة بين العرب من جهة، وأميركا وإيران من جهة أخرى.