كان لي شرف الجلوس مع سعود الفيصل لآخر مرة في باريس في شهر مايو. لم أتوقع أن يكون لقاء الوداع الأخير، فعلى الرغم من أن صحته لم تكن في أحسن حالاتها، كان الفيصل كعادته مرحا بشوشا، وفي الوقت نفسه متابعا دقيقا للتطورات المحيطة بالمنطقة، برؤيته الثاقبة الموزونة.
تحدث الفيصل مع زواره، وهو في إجازة للعلاج، باهتمامه المعهود عن الاستعدادات لقمة كامب ديفيد بين قادة مجلس التعاون والرئيس الأميركي، وكان وزراء خارجية مجلس التعاون قدموا إلى باريس لعقد اجتماع مع وزير الخارجية ووزير الطاقة الأميركيين، وغيرهما من أركان الإدارة الأميركية، للتحضير للقمة ومناقشة سير مفاوضات الملف النووي الإيراني ومستقبل المنطقة. وكان لنصائح الفيصل وقتها أثر ملموس في نجاح تلك الاجتماعات ونجاح القمة لاحقا.
عرفتُ الفيصل عن قُرب منذ 1999 من خلال مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وكان وقتها وزيرا مخضرما، منذ اختياره لقيادة الديبلوماسية السعودية في 1975 حينما عُيّن وزيرا للخارجية بعد استشهاد والده القائد التاريخي فيصل بن عبدالعزيز.
ربما لا يعرف كثيرون من الجيل الحالي أن الفيصل قبل تعيينه وزيرا للخارجية عمل 10 سنوات خبيرا اقتصاديا في مجال البترول، وكان آخر منصب تولاه في ذلك المجال وكيلا لوزارة البترول والثروة المعدنية، وكان له لمسات واضحة خلال المرحلة الانتقالية لصناعة البترول السعودية، بإنجاز التأميم التدريجي، وتوطين القرار البترولي، وتأسيس صناعة البتروكيماويات الوطنية. واستمر اهتمامه بالشأن الاقتصادي بعد تعيينه وزيرا للخارجية من خلال عضويته في المجالس واللجان العليا في مجالات الاقتصاد المختلفة.
وكان لثقافته الاقتصادية -فهو خريج جامعة برنستون في الاقتصاد 1964- أثر واضح في عمله وزيرا للخارجية. فالعمل الديبلوماسي كي يكون ناجحا يجب أن يكون مبنيا على أسس علمية، وعلى التحضير والتحليل وقياس المكاسب والخسائر، كالعمل الاقتصادي، وفي نهاية المطاف فالديبلوماسية أداة لتحقيق المصالح الاستراتيجية، وعلى رأسها المصالح الاقتصادية.
وعلى الرغم من خبرته الطويلة ومعرفته الثاقبة، لم يكن يكتفي بذلك، بل اشتهر بالتحضير الدقيق واستطلاع الآراء المختلفة قبل أي اجتماع أو قرار مهم.
وعلى الرغم من مكانته العالية والتقدير الكبير الذي كان يحظى به في كل محفل، كان حريصا على العمل على التوافق والعمل الجماعي، وكان ذلك واضحا في إطار مجلس التعاون الخليجي على سبيل المثال.
كان الفيصل أحد مؤسسي مجلس التعاون، تحت قيادة الملك خالد بن عبدالعزيز، حين قام وزراء الخارجية بدور كبير في مرحلة التأسيس خلال اجتماعات تحضيرية استمرت سنوات عدة، إلى أن صدر الإعلان التأسيسي في أبوظبي في 25 مايو 1981.
فعلى سبيل المثال، لعب الفيصل دورا محوريا في الاجتماع التاريخي الذي عُقد في الكويت في 4 فبراير 1981 لمناقشة مشروع النظام الأساسي لمجلس التعاون، وتحديد توجهات المجلس المستقبلية، مع وزير خارجية الإمارات العربية المتحدة راشد بن عبدالله النعيمي، ووزير خارجية البحرين محمد بن مبارك آل خليفة، والوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية في عُمان قيس بن عبدالمنعم الزواوي، ووزير خارجية قطر أحمد بن سيف آل ثاني، ووزير خارجية الكويت أميرها الحالي الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح.
ناقش الوزراء في اجتماع فبراير 1981، بمشاركة الفيصل، خيارات مختلفة، أحدها التركيز على الجانب العسكري والعمل مع القوى الغربية لتأمين حرية الملاحة في الخليج العربي، إذ كان ذلك وقت الحرب المدمرة بين إيران والعراق اللذين استخدما مياه الخليج ساحة لحربهما، وناقلات النفط أهدافا.
وكان أحد الخيارات التركيز على الجانب الأمني لتحصين دول المجلس أمام محاولات إيران لزعزعة استقرارها. أما التوجه الثالث، فكان يرى التركيز على التعاون الاقتصادي والثقافي، والحياد في الحرب الإيرانية العراقية، والحياد في الحرب الباردة بين المعسكر الغربي والاتحاد السوفييتي.
وللتوفيق بين تلك التوجهات، عُقد اجتماع للخبراء في الرياض "24 فبراير 1981" وآخر في مسقط "4 مارس"، ثم عقد وزراء الخارجية اجتماعا آخر في مسقط، بمشاركة الفيصل، في 9 مارس. وفي اجتماع الوزراء في أبوظبي في 23 مايو توصل الوزراء إلى صيغة توافقية عكسها إعلان أبوظبي والنظام الأساسي اللذان أقرهما القادة في 25 مايو 1981، وشكلت الإطار الذي عمل خلاله مجلس التعاون. ويقوم على تبنّي مسارات متوازية متساوية في الأهمية، في التعاون الاقتصادي والأمني والعسكري والسياسي، والتأكيد على الهوية العربية والإسلامية للمجلس، والتركيز على النتائج العملية بدلا من الشعارات الجوفاء.
في النظام الأساسي لمجلس التعاون، يلعب المجلس الوزاري، أي وزراء الخارجية، أهم دور في المنظومة بعد المجلس الأعلى. فإضافة إلى السياسة الخارجية، والتحضير لاجتماعات القادة، يقوم المجلس الوزاري باقتراح السياسات التي تهدف إلى تطوير التعاون والتنسيق بين الدول الأعضاء في مختلف المجالات، ويتخذ ما يلزم بشأنها من قرارات أو توصيات، وتحال إليه توصيات جميع اللجان والمجالس الوزارية الأخرى، فضلا عن مسؤوليته عن النواحي الإدارية والتنظيمية والمالية المتعلقة بعمل مجلس التعاون.
وزيرا لخارجية المملكة عاصر الفيصل تحولات جذرية في العلاقات الدولية والإقليمية، وتمكن من التعامل معها بصفة أكسبته احتراما نادرا في خضم تلك التحولات.
تسلم منصبه في ظل حملة عالمية ضد دول البترول، وعلى رأسها المملكة، بعد رفعها الأسعار إلى مستوياتها العادلة وانتزاع حصتها المشروعة من دخل البترول، وتأميم صناعة النفط.
أعقب ذلك الثورة الإيرانية في فبراير 1979، والاحتلال السوفييتي لأفغانستان.. تطوران كان لهما أثر أساسي في بروز الإرهاب كظاهرة عالمية. ثم الحرب العراقية-الإيرانية عام 1980، والغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، والغزو العراقي للكويت 1990، واعتداءات 11 سبتمبر 2001، والغزو الأميركي للعراق 2003، ثم أحداث الربيع العربي منذ 2011.
ستفتقد المملكة ومجلس التعاون قيادة سعود الفيصل وحكمته، وبلاغته وفصاحته، وسيفتقد الذين عملوا معه رعايته واهتمامه وروحه المرحة النقية.