الوعي من أهم ما يميز حياة المجتمعات وبنيتها الثقافية. فقد أوكل الله بلادنا أمانة في أعناقنا لننهض بها عبر بنائية من الوعي الذي يقيم جسور المعرفة بين بني البشر، فهل نحن على قدر تلك الأمانة الثقيلة؟
إن متلازمة الوعي والحلم هي الشهقة الأولى لتلك البنائية الخطيرة؛ وذلك لأن الحلم والوعي ثنائيان يلعبان دورا مهما في البنية الاجتماعية.
إن عمليه تغييب الوعي لدى المجتمعات لا يأتي صدفة، ولكن بنظريات وتخطيط محكم، كي تصل القاعدة من البنية العامة إلى تلك الحالة السابحة في الاغتراب أو التغييب الممنهج والمصنوع، فهل تعرضنا نحن في بلادنا العربية إلى عملية السطو على الوعي الجمعي؟ نعم، وتظهر أولى مفردات هذا التغييب في نقاط عدة منها:
1-الفوقية: فإن ما نراه الآن على الساحة الثقافية من فوقية مفتعلة ومزعجة، ومن تعال بين المثقفين أنفسهم، ما هو إلا نتاج غياب الذات عن إدراك ذاتها أولا، ثم غياب الناقد الحر الفذ الذي يضع الأمور في نصابها، ويفرز الغث من السمين كما يقتضيه معياره النقدي. إذ إن الآنية البراقة المصنوعة من الذهب، تحدث أصواتا رنانة حين النقر عليها إذا كانت فارغة! ولا يفقه كنهها غير ناقد موضوعي ذي منهج واضح، وهو ما يندر في وطننا العربي! ونرى أن هذا يؤدي بالثقافة نفسها وبالتالي بالوعي العام إلى الهاوية، كما نرى أن هذا التغييب مصنوع وممنهج ليس إلا لفقدان الذات الواعية، وفقدان التفعيل لمن هم أهل لذلك دون غيرهم، وبالتالي يؤدي كل ذلك إلى فقدان اتخاذ القرار.
2- التشيؤ: إن ظاهرة التشيؤ أصبحت مخيفة ومتفشية، و"التشيؤ" هو أن يصبح الإنسان سلعة تقيَّم حسب معيار المادة الملتصقة به، والتي تكسب الذات نفسها قيمة بحسب مقدار قيمتها هي! إنه ما يطلق عليه المناطقة "تسليع الإنسان" وهو مرض اجتماعي عضال! فحينما توجد قيمة الإنسان في السلعة لا يوجد مستقبل.
سأسوق لكم مثالا على ذلك: دخل أعرابي على جماعة من الناس وكان يرتدي حلة فارهة، فأحسنوا استقباله والترحيب به وحين جلس على المائدة مد "كُم" جلبابه وقال له: كل فأنت المنوط بهذا الاحتفال والتكريم! إنها حكايات حكوها لنا أجدادنا خوفا علينا من تفشي مرض التشيؤ والتسليع فينا.
إننا لم نعد نهتم ونقدر إلا السلعة دون غيرها، أذكر أنني كنت في مجلس يجمع علية نساء المجتمع، وكانت إحداهن تحمل حقيبة تبدو كإحدى الماركات العالمية التي تقدر بعدة آلاف من الريالات، فاهتمت بها جارتها وتوددت إليها، إلا أن جارتهما الثالثة همست في أذن جارتها وقالت: "تري الشنطة تقليد"، فما كان من صاحبتنا إلا أن انصرفت عن جارتها التي كانت تعيرها أشد الاهتمام؛ بل أدارت عنها وجهها ليس إلا أنها اكتشفت أن حقيبتها الثمينة ليست من الماركات العالمية!
أي بلاء نحن فيه، نوع من التشيؤ والتسليع لبني البشر! فإذا كان هذا يقطن قصرا أو تموج به عربة من نوع كذا وكذا تقف له الدنيا ولا تقعد!
أذكر أنني زرت شاعر العامية الكبير "أحمد فؤاد نجم" فوجدته يقطن في شقة في حي القطامية بمساكن الزلزال، وهو حي شعبي للغاية، ثم إنني صعدت إليه بسلم خشبي عبر فتحة في السقف إلى السطوح فوجدته في غرفة خشبية على السطح ليست بها سوى حصيرة وسرير صغير وموقد للشاي! وهو يهز العالم بقلمه الرصاص الذي لا يحمل في حقيبته سواه! هذا هو الإنسان الحر من عبودية سلطة المادة وسلطة السلعة، فهل نعي ونفهم؟!
3- النقطة الثالثة والمهمة هي الضجر من القراءة: فكيف تصنع أمة بلا قراءة، ونحن أمة القاف، أمة أول كلمة أُمروا بها "اقرأ" ثم إننا أمة القلم الذي أقسم به الله عز وجل في عزيز كتابه بل جعل له سورة باسمه.
4- والنقطة الأخيرة وهي التخصص، فمن دواهي زمننا هذا أن كلا يعمل في غير تخصصه، وتلك مصيبة كبيرة! فإذا ما رجعنا إلى كتاب الجمهورية الفاضلة
للفيلسوف اليوناني الكلاسيكي "أفلاطون" 428 - 423 ق.م، خصوصا نظريته "لمسة الجنون المقدس" نجد أنه طالب بهذا التخصص، فطالب الشاعر إذا ما تكلم عن الطب أن يكون على دراية تامة بعلوم الطب، وإذا تناول التاريخ فيجب أن يدرس التاريخ بتفاصيله، أما كيف يستطيع المبدع أن يصوغ فكرة ما ربما لا يدرك تفاصيلها تماما في قالب مؤثر؛ ذلك أن الفاعل المتخصص الواعي المدرك لكل تفاصيل ما يقوله وما يفعله، يحدث تغيرا كبيرا في محيطه الخاص والعام فقال عنه: إنه بصفة عامة يعمل تحت تأثير قوة إلهية تحركه كما يحرك حجر المغناطيس برادة الحديد، وهذه القوة تنتقل منه للمستمع فعالة قوية مدوية مؤثرة، كما تنتقل قوة الجذب المغناطيسي من الحجر إلى قطعة الحديد إلى قطعة أخرى وهكذا. إن هذه القوة التي أسماها أفلاطون بالقوة الإلهية، ما هي إلا قوة علمه وقوة وعيه وقوة تخصصه وقوة إخلاصه لما يقوله وما يفعله، متخليا عن الشوفونية والمصلحة والواسطة واعتلاء المنابر لإرواء شهوة حب الظهور!
ونختم المقال بقول شاعر العامية وهو ينشد التغيير، وهو من أهل الجنوب، وهم يرددون خلفه في رقصة العرضة المعروفة، فيقول في زهو بارع الحس والوطنية:
"العيب ما هو في الزمن يا مسلمين، العيب فينا وانحن اللي مايلين
انحن تغيرنا ونحنا جاحدين، يالله ياربي تغيرها بغير
في ذا الزمن كلّ غدا شيخ وأمير، كثرت بشوت القوم والموقف خطير
الشور طايح ما اتعرف منهو المشير، يالله ياربي تغيرها بغير
المال سيطر ع المشاعر والقلوب، والمصلحة تحكم على كاف الشعوب
يالله ياربي تغيرها بغير
بعض البشر شكله يثير الاهتمام، وإليا تقدم قل في وجهت الاهتمام
وإذا تكلم ماتبي تسمع كلام، هذي فعايلنا والموقف خطير
يالله ياربي تغيرها بغير"
صوت حيوي من الجنوب ينشد التغيير بعفوية ووعي ودون مقولات فلسفية أو نظريات! وكأنه يشكو بعفوية مطلقة ما طرحناه في هذا المقال!.
إن ما تموج به مجتمعاتنا من هذه النقاط وغيرها، هي ما يخلط الماء الرائق بالطين فيغدو وحلا لا يشبع ولا يروي من العطش، وهؤلاء شبابنا الصبية الصغار ينساقون وراء آراء وأفكار متطرفة هدامة ليس إلا لتفشى آنية الذهب المليئة بالهواء.