في مقالتي السابقة (الدعوة إلى الله بالصوت الجميل، والحلال البديل من أجل الشباب) جاءت جملة (الموسيقى محرمة شرعا)، وللأسف فهم بعض الإخوة القراء أنها تحمل اعتقادي بتحريم الموسيقى، لذلك أؤكد أن التحريم المشار إليه هو رأي الذين يحرمون الموسيقى والغناء بشكل مبالغ به لدرجة تحريم النشيد الوطني – السلام الملكي مثلا – ولا مانع من أن يشدد الإنسان على نفسه، إذا كان يضمن ألا يغير رأيه مستقبلا، وهو ما لا يحصل إلا في حالات نادرة؛ ولكن يجب أن يكون هناك مانع كبير أخلاقي يحول دون التشديد على الناس، قياساً على سنة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام الذي كان يأمر من يؤم الناس بالصلاة ألا يطيل لأن فيهم الضعيف والعاجز، على أن يطيل صلاته لوحده في بيته كما يشاء؛ ومن أجل ذلك استشهدت في مقالتي تلك بكلام الشيخ القرضاوي الذي لم يحرم غناء المرأة إذا لم يكن في الأغنية ما يخدش الحياء أو يثير الشهوة أو أي علة أخرى من العلل التي تجعل الاستماع إلى الغناء محرماً سواء كان المغني رجلا أو امرأة.

وصلني مؤخراً مقطع فيديو يظهر القرضاوي نفسه مشاركاً في مهرجان – ربما هو مهرجان إنشادي - في موريتانيا، وكان يهز عصاه مع وقع النشيد، وإلى جانبه الشيخ الموريتاني الحسن بن الددو يرفع سبابته في حركة أشبه بالشهادة، وحركة الشيخين الفاضلين لا غبار عليها، فالطرب أو الانسجام مع اللحن يشير إلى مدى حساسية الإنسان، ولكن المشكلة في رأيي كانت في كلمات النشيد نفسها، والتي تدعو ليس إلى الزهد بالدنيا وعدم الاغترار بمفاتنها فقط، بل إلى نبذ الإنسان لكل مسؤولياته الدنيوية، وترك الأشخاص الذين يسأله الله عنهم من أولاد وزوجة ووالدين، وغاية النشيد واضحة ألا وهي إعلاء روح الجهاد والدعوة إلى الموت في سبيل الله.

الشيخان الفاضلان معروفان بالاعتدال، وكلاهما قد عانى تجربة مريرة في السجن بسبب أفكاره الجهادية، ومع ذلك فلا أود أن أتسرع بالحكم عليهما بنواياهما بإثارة الشباب، فقد يكون وُضعا في هذا الموقف بدون سابق معرفة، لكني أحببت الاستشهاد بكلمات النشيد نفسها، وأنها إذا ما تمت مقارنتها بالأحاديث التي تدعو إلى الجهاد في العهد النبوي المدني حينما كانت راية الجهاد معروفة وكان القائد هو نفسه النبي الموحى إليه، أي أنه لا يمكن أن يخطئ حين يدعو إلى الجهاد، فإن تلك الكلمات تتضمن مبالغات لا يمكن معها أن نجد عذرا لقائلها، وذلك لمخالفته صريح السنة وصحيحها، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال لأحد المتقدمين للجهاد عندما علم أن لديه أبوين شيخين كبيرين:(ففيهما فجاهد)، وأمر في حديث آخر أن يكتتب الرجل في الحج مع زوجته لأن الجهاد لم يكن فرض عين في حالته، وقال في حديث ثالث: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) من زوجة وأولاد، وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تبين أن التوازن هو أساس الدعوة، وهذا التوازن هو ما يفتقده الخطاب الدعوي الحالي، والأمثلة أكثر من أن تعد وتحصى سواء في خطب الجمعة أو في أي منبر دعوي آخر.

لدى تصفحي أحد المواقع الإسلامية على النت وجدت سؤالاً موجهاً من أحد الشباب المهتمين بالدعوة يبين فيه أنه استطاع الوصول إلى قلب فتى عمره 14 عاما ويحضه على الصلاة فأصبح يؤديها، وبما أن هذا الشاب الداعية فرح بهذا التغيير فقد نقل الصورة إلى شيخه ليبتهج معه بهذا الإنجاز، ولكن ردة فعل الشيخ كانت مختلفة عما توقع الشاب الداعية، إذ ما إن أخبر الشيخ عن حال هذا الفتى بأنه يتيم وأن أمه لا ترد له طلبا خاصة أنه بار بها لطيف المعشر رقيق وحساس ومهذب، حتى نصح الشيخُ الشابَ ألا يعتمد كثيرا على هذا الإنجاز لأن هذا الفتى مرفّه ولا يصلح للدعوة؛ وهذا مثال يدل على افتقاد الخطاب الدعوي للإنسانية، فالشيخ الذي هو داعية كبير السن يفترض أن يكون أكثر خبرةً بحيث لا يخلو قلبه من الحس الإنساني والشعور النبيل، كما يفترض أن يكون أوسع نظراً بحيث لا يبدو عقله معتقلا في سجن التعميم، وكان من واجبه أن يشجع الشاب على زيادة الاهتمام بهذا الفتى خاصة أنه يتيم الأب ويحتاج رجلا يسانده في الحياة.

هذه أمثلة عن مراوحة الخطاب الدعوي بين اللاواقعية تارة واللاإنسانية تارة، إضافة إلى أن أهم سمات هذا الخطاب هو غياب التعددية والقبول بالرأي الآخر، مع أن من واجب الداعية أن يدرك اختلاف الناس من حيث ردود أفعالهم تجاه المؤثرات التي يقعون ضمن نطاقها حسياً أو روحياً، وبذلك يستطيع أن يقر حق الاجتهاد الشرعي، ومن هنا يستنتج المرء حكمة الملك عبدالله بن عبدالعزيز عندما أدخل علماء من هذه المذاهب في هيئة كبار العلماء في المملكة، وحينما قصر الفتوى على أهلها.

إن الداعية الرباني الذي يقتفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي لا يطالب الناس بما يفوق قدراتهم وإمكانياتهم، ولذلك جاءت المدارس الفقهية الأربع في التاريخ الإسلامي ( الحنفية، المالكية، الشافعية، الحنبلية) استجابة للواقع الإسلامي الذي تلا عصر الصحابة، وإذا كان إقفال باب الاجتهاد قد وضع المسلمين في مواجهة مع تحديات العصور المتتالية والتي لا تزال آثارها واضحة للعيان، فإن إقفال أبواب التوازن وإغلاق الحس الإنساني يبقي الإسلام مرتهناً في قبضة أناس يمثلونه وهم أبعد ما يكون عن روحه الحقيقية.