قبل عامين تقريبا، التقيت مبعوث الأمم المتحدة السابق لحل الأزمة الليبية د. طارق متري، وهو وزير لبناني أسبق وديبلوماسي محنك، سألته حينها عن رؤيته لمستقبل ليبيا، وإن كان ثمة أمل في نهاية النفق المظلم الذي دخله الليبيون رغما عنهم بعد سقوط نظام معمر القذافي، والحقيقة أن الرجل كان متشائما إلى أبعد الحدود، مع أنه كان يحاول إخفاء ذلك بمسحة من التفاؤل الذي يفرضه عليه عمله في هذا المنصب الحساس.

بعد مرور كل هذا الوقت يبدو أن ذاك التشاؤم كان في محله، فقد اتضح أن تركيبة المجتمع في ليبيا وتداخلاته القبلية أكثر تعقيدا مما اعتقد البعض، لا سيما أولئك الذين لم يروا في الليبيين سوى مجاميع قبلية، تعتنق دينا واحدا وعلى مذهب واحد، وبالتالي فإن احتمالات اندلاع حرب طائفية تبدو ضئيلة.

كل تلك الحسابات كانت خاطئة، ودخل الليبيون معترك الصراع بين قوى سياسية وميليشيات مسلحة، تحاول فرض سيطرتها على المدن الرئيسة لأسباب عدة، لعل أبرزها الثروة النفطية، والنزاع الأزلي بين غرب ليبيا وشرقها الرامي إلى الانفصال.

انفصال تكرس على أرض الواقع فعلا ببرلمانين وحكومتين تتنازعان الشرعية، وتحاول الأمم المتحدة جاهدة جمعهما ضمن حكومة وحدة وطنية، وذلك عبر اتفاق للسلم والمصالحة وُقّعت مسودته بالأحرف الأولى مطلع هذا الأسبوع في منتجع الصخيرات المغربي من بعض القوى السياسية الليبية، ولكن بغياب وفد المؤتمر الوطني العام أحد الأطراف الرئيسة في هذا الحوار، والمتحفظ على ما جاء في الاتفاق.

المشكلة ليست فقط في هشاشة هذا الاتفاق الذي، وبحسب قراءة بسيطة في الذاكرة الليبية، لن يصمد أكثر من بضعة أشهر، بل المشكلة الأكبر تكمن في أن دائرة الخطر اتسعت من مجرد صراع على السلطة، إلى مصدر تهديد دولي وبؤرة إرهاب حقيقي باتت تشكلها الأراضي الليبية، وذلك بعد دخول عنصر جديد إلى معترك هذا الصراع، ألا وهو تنظيم "داعش".

هذا التنظيم وجد في ليبيا التي تتخبط سياسيا وأمنيا منذ سقوط القذافي، أرضا خصبة لتدريب عناصره الإرهابية، وسوقا مفتوحة لتهريب كميات كبيرة من الأسلحة، وأوضح دليل على ذلك ما كشفته التحقيقات الأخيرة، من أن الشاب الذي اقترف جريمة مدينة سوسة التونسية، وقتل العشرات من المصطافين على شواطئها، تلقى تدريبه على يد عناصر "داعش" في ليبيا.

تونس التي سارعت إلى فرض حالة الطوارئ، أعلنت عن البدء في بناء جدار عازل على طول حدودها مع الجارة الليبية لمنع تسلل الإرهابيين، أما مصر التي باتت تستشعر الخطر بعد أحداث سيناء وتفجير القنصلية الإيطالية، فقد طلبت من الولايات المتحدة أسلحة إضافية لتأمين حدودها مع ليبيا.

الملاحظ أن كل هذه الحلول ليست سوى مجرد عقاقير مسكنة، قد تخفف الألم لكنها لن تقوى على معالجة هذا الجرح الغائر في خاصرة المجتمع الدولي بشكل عام، فلا يمكن أيضا تناسي أن السواحل الليبية باتت مرتعا لتهريب مئات الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين إلى الضفة الأوروبية، وبين هؤلاء كثير من العناصر الإرهابية، والاتحاد الأوروبي برمته يقف عاجزا أمام هذه الأزمة.

المسؤولية تقع إذن على عاتق العالم أجمع، هذا العالم الذي اجتمع يوما ليقرر تخليص الليبيين من حقبة معمر القذافي، دون أن يقرأ بتمعن في سيناريوهات المستقبل الليبي، عليه أن يضع هذا البلد اليوم في أعلى هرم أولوياته، وأن يبحث عن حلول ناجعة تخرج الليبيين من مستنقع الأزمة السياسية أولا، ثم تساعدهم في حل معضلتهم الأمنية، كما أن أي تحرك دولي للقضاء على "داعش" يجب أن يدرج ليبيا على قائمته وبشكل عاجل، وإلا فإن القادم سيكون قاتما أكثر.