ليست فكرة بريئة تلك التي ذهبت يوما إلى إحلال فكر على حساب فكر آخر، أيا كان نوع الفكرة ثقافيا اقتصاديا اجتماعيا سياسيا... إلخ، فأصلها دون جدال براغماتي صرف، لأن منطلق المشروع برمته انتهازي الهدف، أناني الغايات، أحادي الغرض. فالفكرة الضالة إقصائية بأبعادها وذلك يجعل منها عدوا مباشرا للمجتمعات والبعد الإنساني والأخلاقي، ليس لأهدافها وتوجهاتها وحسب، بل ولمعتقداتها التي قد تكون خطيرة على الوعي والمصير البشري أيضا، إذ ستتحكم تلك الفكرة البديلة في تشكيل المستقبل وتقريره على النحو الذي تراه. وبالتالي فإنه من الضروري أن تتنبه المجتمعات إلى خطورة ما تذهب إليه في ظل فكر منحرف، وتسعى إلى إيجاد حلول وطرق لتجنب الوقوع في شراك الفكرة الضالة، ومحاولة الهروب من الانزلاق إلى ما قد يقولبها ويحجمها.

من هنا تبرز أهمية مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية، وأهمية أن تعيد الأمم النظر في خياراتها واهتماماتها ومصالحها وكيفية اتخاذ قراراتها، إزاء حزم المتغيرات المتلاحقة في عصرنا الحالي، فالوقت المتسارع لا يمنحك الكثير منه كما في السابق، لذا فإنه من المهم أن تكون لديك معلومات شبه مكتملة على الأقل، عما وما الذي قد تذهب إليه.

وتكمن إحدى أعظم مهمات مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية في التصدي لمحاولات اختطاف المجتمعات والاستحواذ عليها، فكريا أو سياسيا أو اقتصاديا، وهي في الواقع تقرع جرس الإنذار الاستباقي الأول، للتنبيه عن مؤشرات ما سيكون، نتيجة اعتمادها على خطوط بيانية لمؤشرات الأحداث، وتمنحك رؤية أوسع وثقة أعظم فيما يتعلق بقراراتك.

قبل سنوات قليلة وتحديدا في نهاية الشهر الثاني عشر من 2012، كنت قد اقترحت على صديقي الدكتور حمود أبو طالب الكاتب المعروف بصحيفة عكاظ، أن نتشارك في إنشاء مركز للدراسات الاستراتيجية في منطقة جيزان، وتحدثنا واتفقنا تقريبا على الخطوط العريضة للمشروع، على الرغم من تحفظه الشديد فيما يخص الجوانب الاقتصادية والسياسية حول الفكرة والموضوع.

وقدمت لذلك نبذة تعريفية صغيرة جدا عن فكرة المركز وتوجهه تقول: "تتمثل العملية الرئيسية للمركز في مهمة إعداد البحوث والدراسات العلمية المتعلقة بالجوانب التنموية والفكرية والثقافية والسياسية والحضارية للمملكة العربية السعودية والوطن العربي، ويرتكز الدور الأساسي للمركز على المساهمة في رفع مستوى القيمة التنويرية التي يحتاج إليها المجتمع السعودي والعربي والعالمي، من خلال اهتمامه بشؤون موقعه الجغرافي أولا وقدراته الاستراتيجية ثانيا". إلا أن المشروع الحلم ظل وبكل أسف مجرد دردشة عابرة على هامش جلسة عابرة أيضا.

اليوم أصبحنا في الربع الثالث من عام 2015، وهو الذي كان مستقبلا في عام 2012، وكثير من المتغيرات على أصعدة مختلفة حدثت، أبرزها المواجهات العسكرية على الحدود السعودية اليمنية، ضد الجماعات الحوثية المسلحة وفلول المخلوع علي صالح.

وأصبح لجيزان، وهي جزء مهم من جنوب المملكة العربية السعودية وشبه الجزيرة العربية، وجه مختلف، وتعيش حاليا قفزة اقتصادية هائلة جدا، تغيرت معها ملامح الأرض إلى حد كبير جدا، ونجران وعسير امتداد طبيعي وجغرافي للجنوب الكبير، وكان من الممكن أن يغطي المركز الحلم كل الجنوب بلا استثناء.

واليوم أيضا أظن أن صديقي الدكتور حمود ربما يشعر بقليل من الندم على ترددنا، فالظروف الحالية التي تمر بها المنطقة العربية والعالمية، ومنها حتما جنوب الجزيرة، كان يمكن أن يستوعبها ويشارك فيها المركز الحلم وبشكل ريادي، ويصب في مصلحة تنمية وحماية المكان والإنسان، ليقدم خدمة كانت ستكون كبيرة على كل النواحي السياسية والفكرية والاقتصادية، من خلال رصده التحولات وتقديم التنبؤات والتوقعات، وعقد المقارنات وإبراز المقاربات، وعمل الإحصائيات وما إلى ذلك من متابعات هي جزء من صميم عمل المركز وذاكرة المكان والزمان التاريخية، وأعتقد أن المنطقة تستحق مشروعا على هذه الدرجة من الأهمية، فاليوم تتحكم مثل هذه المراكز في مصائر الأمم والشعوب والقرارات المختلفة وتشكل الأيديولوجيات وتنقضها. مركز للبحوث والدراسات الاستراتيجية جنوبا هو حلمي الكبير.