يشكل الاستثمار في صناعة الأبناء الفقرة الأولى والرئيسية في الاهتمامات لدى بعض أولياء الأمور.
وهذا هو بالضبط ما صنعه ولي الأمر فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله حين بذل عنايته في مستقبل أبنائه، وهكذا أثمر بنجاح هذا الاستثمار تميزاً مشهوداً لأبناء الملك فيصل.
وكما تحرص الدول على ترقية صناعاتها الثقيلة والتحويلية والتجارية في ظل التنافس المحموم فإن صناعة الرجال تبقى هي الأهم وهي الأصعب، وقد برعت المملكة خلال مسيرتها التنموية الطويلة في صناعة القادة السياسيين والاقتصاديين والإداريين من الذين تركوا بصماتهم واضحة في المسارات المحلية والإقليمية والدولية.
ولو أني أردت التمثيل على ذلك لطالت القائمة التي دخلها ملوك البلاد وأولياء العهود وكثير من أمراء المناطق، وعدد كبير من الوزراء التكنوقراط والرؤساء التنفيذيين الذين أبدعوا في تروية مفاصل التنمية وأوردة التطور في هذه البلاد خلال نهضتها الحضارية المستمرة.
وعلى هذا الأساس يمكننا اعتبار الأمير سعود الفيصل رجل السياسة وعراب الدبلوماسية أحد مفاخر الصناعة السعودية التي عرفتها الدهاليز السياسية في الداخل والخارج خلال أربعة عقود مضت.
ولم تكن السنوات الطوال التي أمضاها الأمير سعود وزيراً للخارجية شفيعة للتميز، ولكن ذلك قد تم بفضل ما توافر عنده من قدرات وحنكة أكسبت الاقتصادي والسياسي والإداري سعود الفيصل مهارة الإنجاز في تحقيق الغايات بهدوء وحكمة وصمت، مما جنب بلاده والمنطقة الكثير من الإشكالات وكبير الاستهدافات التي تحاك ضد استقرار هذه البلاد، لكن تميز العلاقة والحذاقة التي كان عليها وزير خارجيتنا وما تكنه له القيادات العالمية من احترام هو الذي أسهم بقدر وافر في تجنيب هذه البلاد العديد من الويلات.
والحقيقة التي لا جدال فيها أن المملكة قد خسرت بوفاته الكثير من الخبرة المتراكمة والمهارة الإدارية وانضباطية العمل الصارمة والإخلاص اللافت والعمل الدؤوب والمعرفة الدقيقة بما يدور في أروقة الدبلوماسية الدولية والكيفية المثلى للتعامل معها.
لكن ستظل هذه البلاد بحمد الله وفضله ولادة ونجاّبة على نحو تصنع معه رجالا وقادة وفق نموذج الفيصل الخاص التي يعتمد الصمت والروية، وينأى في مسيرته عن سياسة الأبواق الذي تملأه لجاجة اليسار وتهور العسكر.
كما سيظل الأمير سعود الفيصل يرحمه الله نبراساً يحتذي سيرته كل الذين يلونه في العمل في وزارة الخارجية وفي الأروقة الدبلوماسية، لأن سياسة المملكة تأسست على تبني منهج العقلانية والحوار وتقدير الأمور بعيداً عن مبارزة طواحين الهواء.
وسيبقى من مصادر فخرنا إلى جانب خدمة الحرمين الشريفين صناعة الرجال التي هي من أبرز ثرواتنا، فهي في المقدمة قبل كل احتياطاتنا النفطية والمعدنية.