إذا كان الله تعالى قد أمر في كتابه الكريم بأن تكون الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وإذا كانت الحكمة في أحد تعريفاتها هي وضع الشيء في موضعه، أو كما قيل: فعل ما ينبغي كما ينبغي في الوقت الذي ينبغي؛ فإن وضع الأمور في غير نصابها ليس من الحكمة.
قال الله تعالى في كتابه الكريم: {قد جعل الله لكل شيء قدرا}، ومما جعل الله قدرا وبينه أتم تبيين التفريق في المعصية بين ما هو كبير يترتب عليه حد أو لعنة أو غضب أو نار، وما هو صغير لا يترتب عليه ما سبق ما لم يكن إصرارا، كذا التفريق بين الذنب المتفق عليه، وما اختلف فيه أنه ذنب ومعصية، وكذا التفريق بين ما هو سائد حتى ظنه الناس صلاحا وما هو إلا فساد، وبين الأمور التي لا تذكر إلا لماما ولا يصح تسليط الضوء عليها والإكثار من الحديث فيها لندرتها وقلتها.
وكما أن الإفراط مذموم، فالتفريط كذلك مذموم، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، كما قال الشاعر العربي.
إن كثيرا مما يتكلم فيه الوعاظ والخطباء داخل في دائرة (المختلف فيه بين العلماء)، وأكثر هذا الـ(مختلف فيه بين العلماء) مما يتسع له باب الاجتهاد، والاختلاف فيه معتبر.
فالانشغال بما يزيد على الحد بمسألة كشف وجه المرأة مثلا، وهو مذهب معتبر، وبه قائلون من السلف والخلف، ولن ينتهي الخلاف فيه إلى قيام الساعة، ولا يمكن ادعاء الإجماع فيه، وقال به أئمة وعلماء كبار، الانشغال بهذا الموضوع وأشباهه هو من قبيل (التهويل) وإعطاء المسألة أكبر من حجمها، فضلا عن اتهام من قال بها بالدياثة مثلا وانعدام الرجولة والنخوة وغيرها مما يدخل في الفجور في الخصومة بلا مثنوية، فما علاقة هذا أصلا بالوعظ والإرشاد؟
ولعل بعض الوعاظ تشغله مسألة كشف المرأة وجهها انفعالا وحماسة واشتعالا وتهييجا؛ أكثر مما يشغله أن يرى امرأة عجوزا تأكل من القمامة، فينفعل بالأولى، ولكنه يدحرج للأخرى نظرة شفقة ورحمة، أو يمد يده بقليل من المساعدة، دون أن يعي أن وجود فقير يأكل من القمامة أو لا يجد الحد الأدنى من العيش دون أن يتحمل المجتمع مسؤوليته تجاهه ودون أن يحقق العدل المنشود بين أفراده هو ظلم اجتماعي وإثم أكبر من مجرد كشف امرأة وجهها، وهي مسألة اجتهادية خلافية كما أسلفت.
كذلك من التهويل مثلا التخويف من الموت، على أنه سنة من سنن الحياة، وابتكار أقاصيص في حسن الخاتمة وسوئها، على أن الله تعالى العدل الرحيم سيزن أعمال العباد يوم القيامة كلها دون التفات إلى حسن خاتمة ولا سوئها، ويا كم سمعنا من أقاصيص حول هذا، فيقال إن فلانا حين مات اسودّ وجهه -مثلا- هذا، على رغم أن العلماء حرصوا على (الستر) على الميت، وعلى عدم إفشاء ما يجري له أثناء التغسيل مثلا، فهذا الإمام ابن عبدالبر -يرحمه- الله يقول في كتابه (التمهيد): "وحرمة المؤمن ميتا كحرمته حيا في ذلك، ولا يجوز لأحد أن يغسل ميتا إلا وعليه ما يستره، فإن غسل في قميصه فحسن وإن ستر وجرد عنه قميصه وسجي بثوب غطي به رأسه وسائر جسمه إلى أطراف قدميه فحسن، وإلا فأقل ما يلزم من ستره أن تستر عورته ويستحب العلماء أن يستر وجهه بخرقة وعورته بأخرى لأن الميت ربما تغير وجهه عند الموت لعلة أو دم وأهل الجهل ينكرون ذلك ويتحدثون به".
فالإمام ابن عبدالبر -يرحمه الله- يوصي بتغطية وجه الميت لأنه قد يسود وجهه فينكر ذلك أهل الجهل (أي أنهم يرونه منكرا) ويتحدثون به (أي يتكلمون في الميت ويشيعون هذا الخبر).
والمقصود من هذا؛ أن اسوداد الوجه قد يكون له أسباب موضوعية طبية لا علاقة لها بحسن خاتمة ولا سوئها، فربما يحتقن الدم مثلا فيؤدي إلى هذا؛ فمن الجهل إذن زرع ثقافة بين الناس أن هذا من سوء الخاتمة بلا دليل من كتاب ولا سنة.
ما سبق مثال من أمثلة، يمكن الخوض فيها لولا ضيق المقام، وبالإمكان القياس عليها، وأمام تلك الأمثلة نجد أمثلة أخرى في التهوين، ولا سيما عند الحديث عن الفضائل؛ إذ يقدم خطاب عن الفضائل يعزلها عن أداء الفرائض والقيام بالواجبات والامتناع عن المحرمات القطعية في كتاب الله وسنة رسوله المجمع عليها.
فمن فعل كذا وكذا حصل له من الأجر كذا وكذا وكذا، ولا اعتراض على هذا، فالله أكرم الأكرمين، وهي من أبواب الخير التي يمنحها الله سبحانه عباده، وهي من نفحات الكريم تعالى التي يتفضل بها على المؤمنين، لكنها لا تكون أبدا في معزل عن فرائض الدين من العدل والرحمة والمواساة وإطعام الفقير وحسن الخلق وطيب الكلام وتنقية القلوب من الغل والحسد والبغضاء.
إني أدعي أن خطاب الفضائل لا ينبغي أن يعزل عن الفرائض والواجبات وأداء الحقوق إلى أهلها؛ فالإسلام منهج حياة، وليس هو مجرد شعائر ومناسك لا علاقة لها بالخلق الكريم، والسلوك الفاضل، وليس من الفقه في الدين، ولا من الفهم للكتاب والسنة حق الفهم، أن يقدم الإسلام بطريقة شوهاء ناقصة، ولا بطريقة مبتورة، فإذا المتن يصبح في الهامش، وإذا الهامش يصبح هو المتن.