على الرغم من تفاقم الدين العام الأميركي الذي أوشك على كسر حاجز الـ16 تريليون دولار، ليعادل قيمة الناتج المحلي الإجمالي، و22% من الناتج العالمي، يستمر الدولار اليوم في تربعه قمة أقوى العملات في النظام المصرفي، وسط تراجع العملات الأوروبية. لذا شئنا أم أبينا، تبقى أميركا اليوم صاحبة الاقتصاد الأقوى في قريتنا الكونية، لتحتل المركز الأول في الصادرات، التي تشكل 21% من حجم الصادرات العالمية، والمرتبة الأولى في تجارة السلع والخدمات بحصة تفوق 17% من قيمة التجارة الدولية.

هذه القوة الاقتصادية التي تتمتع بها أميركا، جاءت نتيجة قرارها التاريخي في 15 أغسطس 1971 القاضي بوقف تعاملها مع نظام النقد العالمي؛ لتنتهي بذلك علاقتها بنظام الصرف بالذهب، وتتوقف قاعدة تبديل الدولار بالمعدن الأصفر. وكان هدف أميركا من هذه الخطوة موجها في المقام الأول إلى إنقاذ الدولار من الأزمات المتتالية، وإبعاد الذهب كليا عن ساحة التعامل النقدي، كي يتربع الدولار على قمة الاقتصاد الدولي.

بعد 3 أيام من صدور القرار الأميركي، سارعت الدول الأعضاء في السوق الأوروبية المشتركة إلى عقد مؤتمر طارئ في باريس بتاريخ 18 أغسطس 1971، لاتخاذ موقف انتقامي ضد أميركا في المجالين الاقتصادي والنقدي، وصدر بيان "الإليزيه" الشهير، الذي عدّ الإجراءات الأميركية مُخِلّة بلوائح صندوق النقد الدولي، ومتعارضة مع أحكام اتفاقية "الجات" الخاصة بالتجارة العالمية، وأوضح البيان الأوروبي أن الإجراءات الأميركية ستؤدي حتما إلى إصابة الدول الأوروبية بعجز تجاري تقدر قيمته بنحو 2 مليار دولار سنويا، نتيجة تأثر 87% من صادرات السوق الأوروبية إلى أميركا.

هذا البيان حدا بأميركا إلى دعوة مجموعة الدول العشر الغنية في العالم للاجتماع في واشنطن بتاريخ 18 ديسمبر 1971؛ للاتفاق على نظام الصرف الدولي، وصدر عن الاجتماع "اتفاق واشنطن"، الذي أطلق عليه فيما بعد لقب "الثعبان النقدي"، نظرا لغياب دور الذهب من نص الاتفاق، واعتماده فقط على أحكام تثبيت أسعار العملات تجاه بعضها، وإلزام المصارف المركزية بالتدخل في الأسواق المالية دفاعا عن أسعار عملاتها.

ولأنه لم يعالج جوهر المشكلة، عجز "الثعبان النقدي" عن الصمود بعد مضي بضعة أشهر على توقيعه، فانتشرت المضاربات على الجنيه الإسترليني، وعجزت الحكومة البريطانية عن دفع ديونها لصندوق النقد الدولي، وأقدمت فورا على تعويم سعر صرف الجنيه في الأسواق الدولية، متجاوزة بذلك "الثعبان النقدي".

كما عادت المضاربات على الدولار في الأسواق المالية الدولية، ما دفع الحكومة الأميركية إلى تخفيض سعر صرف الدولار بنسبة 10%، وإعلان اليابان وأوروبا انسحابهما من اتفاق "الثعبان النقدي".

في الأعوام اللاحقة، استمر تعويم أسعار الدولار والإسترليني والين الياباني، وأطلق على تلك الحقبة الزمنية "نظام الصرف العائم" لتستشري الفوضى النقدية وسط غياب النظام النقدي الدولي. ونتيجة لذلك بدأت الأزمات المالية تعصف بالعالم لتنتهي اليوم بأزمة الدين اليوناني التي بدأت تتكشف أواخر عام 2009 مع انتشار مخاوف المستثمرين من عدم قدرة اليونان على الوفاء بديونها نتيجة الزيادة الحادة لحجم الدين العام. وقد أدى ذلك إلى أزمة ثقة في الأسواق المالية اتضحت بارتفاع الفائدة على السندات اليونانية، وارتفاع التأمين على السندات اليونانية ضد التخلف عن السداد. ومع تزايد حجم الديون العمومية وارتفاع عجز الموازنة يواجه الاقتصاد اليوناني ضعفا في النمو وصعوبة في الاقتراض لتسديد هذه الديون.

في 23 يونيو 2010 قدمت الحكومة اليونانية طلبا رسميا إلى دول منطقة اليورو وصندوق النقد الدولي، بتفعيل خطة الإنقاذ المالي التي تم الاتفاق عليها مع المفوضية الأوروبية، وتتضن الخطة قروضا من دول الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد بقيمة 45 مليار يورو، لتأمين النفقات المالية خلال السنة الجارية، إضافة إلى تسديد 16 مليار يورو؛ لتسديد آجال السندات التي تخلفت اليونان عن سدادها بسبب ارتفاع معدلات الفائدة إلى 8.3%. وفي 21 فبراير 2012 أقرت دول منطقة اليورو خطتها المحدثة لإنقاذ اليونان، والتي تهدف إلى إعادة هيكلة ديونه التي تناهز 350 مليار يورو. وتتضمن الخطة مخصصات مالية بقيمة 130 مليار يورو، واتفاق لتبادل سندات الديون اليونانية مع دائنيها من القطاع الخاص ينص على شطب 53.5% من قيمة السندات بما يعادل 107 مليارات يورو، إلى أن تنتهي آجال استحقاق الديون اليونانية في 2042.

"الثعبان النقدي" استدرج الدول الأوروبية لمزيد من التجزئة والانقسام، ما يدفعها اليوم إلى التفكير في بديل يحافظ على هيكلها الاقتصادي، ويعيد صناعة نموذجها الأوروبي من خلال وحدة سوقها المشتركة، والتزامها بتنمية إنتاجها الوطني، واستقرارها المالي، وحرية التبادل التجاري بين مجموعة دولها.

ولكن الدول الأوروبية تشعر اليوم بالإحباط من أزمة اليونان الاقتصادية، والتي قد تتبعها أزمات مشابهة في إسبانيا والبرتغال وأيرلندا، خاصة في المجال النقدي والمالي. ولكن فشل دول الاتحاد أمام "الثعبان النقدي" الأميركي أدى إلى تضخم مخاطر تقلبات أسعار الصرف بين عملات الدول الأوروبية، وتأثيرها السلبي على أداء الشركات وحركة رؤوس الأموال بين الدول الأعضاء، وكان لذلك أبلغ الأثر في تحديد هامش التغير لأسعار الصرف، وتوفير المساعدات لليونان وغيرها من الدول الأوروبية المتعثرة، ما ينذر بقرب طلاق اليورو الأوروبي من اليونان، وبدء إجراءات طلاقه من البرتغال وإسبانيا. وهذا سيؤدي حتما إلى تمكين الدولار الأميركي من التسلط بقوة "الثعبان النقدي" على نظام الصرف العالمي دون منازع.