لماذا يكون لوفاة وزير للخارجية هذا الصدى والتأثير ومشاعر الفقد والأسى؟

وزراء الخارجية عادة ما تحملهم ملفاتهم إلى خارج الحدود، وتكون مشاغلهم بعيدا عن الهموم المعيشية للمواطن العادي، وحتى النقاش السياسي الداخلي الذي يحتدم ويموج فيه الناس، يغلب أن يكون بمنأى عن الملفات الخارجية التي هي عادة محل توافق الرأي العام، أو بعيدة عن أولوياته وصخب ظروف عيشه.

لذا، حينما يلحظ المرء هذا الدفق من المشاعر، وهذه الآلاف التي تعزي وتعبر عن أحزانها لوفاة صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل، رحمه الله، الذي اختزن الناس صورته وزيرا للخارجية، تَمْثُل الـ"لماذا" في الذهن تسأل عن السياق، عن الأسباب، عن شرح لهذا الانفعال الغامر والتفاعل المهيب.

نعم، لماذا؟

لعل من ملامح الإجابة أن سعود الفيصل -وهو الآن بين يدي ربه وفي غنى عن الألقاب- كان يحمل قيمة الرمز. رمز السلطة، رمز لفرد من الأسرة المالكة في موقع المسؤولية، والاهتمام بخبر وفاته من طبيعة الأمور. لكن لعمق الشعور بالفقد، والإحساس بأن الحزن أوسع من وقفة عند وفاة صاحب نفوذ، دلالة تتعدى شخص الأمير الراحل، وتمتد لتدل على موقع الأسرة المالكة في الخريطة الاجتماعية، في موقعها في حياة الإنسان العادي: في نفسه، في ضميره، في قلبه، في عقله.

من نافلة القول: إن هناك من يرى حاجة لتطوير المؤسسات العامة وأدواتها، والمسارات التي تؤطر اتخاذ القرار العام، لكن ردود الفعل على وفاة سعود الفيصل تجسد أيضا، أن رغبات الإصلاح والتطوير تتعايش جنبا إلى جنب مع شعور عميق وحقيقي بأن لـ"آل سعود" مكانة راسخة في الإحساس بالوطن، وبمكونات الوطن، وبمعنى الوطن، وأن لأفراد الأسرة، وإن تفاوتت مواقعهم في نفوس الناس، قيمة الرمز. رمز يجسد التوق إلى قيادة عادلة مستقرة، مغروسة في أرض مجتمعها، معجونة بنخله وعجه، بصحاريه وشطآنه.

مدى التفاعل مع وفاة الأمير تجعلنا نرى أنه كانت له -رحمه الله- قيمة أخرى إضافة إلى أنه رمز لنظام أو أسلوب حكم أو لسلطة.

قيمة النموذج.. نموذج لمواطن تفوق وبرز وبزغ. وأيا كانت الإمكانات التي توافرت لسعود الفيصل، وهي قد توافرت لغيره أيضا، فإنه صنع منها قصة نجاح.. درس في جامعة كبرى، أجاد أكثر من لغة، تعدت ثقافته متطلبات عمله، لتشمل الأدب والفن والمجتمع والفلسفة؛ وبلغ مكانة تضعه في موضع الند، ليس فقط لثقل بلده وأهميتها، بل لشخصه أيضا.. جاد، لبق، مثقف، ناظر زعماء العالم ورموزه، بل وبزهم أحيانا.

كل ذلك نريده لأنفسنا ونطمح إليه، ويغمرنا شيء من الاعتزاز والإكبار أن يتحقق لواحد منا، أن نرى بيئتنا تنجب مثل هذا النموذج. أن واحدا منا وصل هناك، أكمل الشوط، حاز على المكانة، وأضحى واقعا ماثلا نرى فيه أنفسنا، ونأسى لغيابه.

كما يبدو أيضا أن "النموذج" الذي جسده سعود الفيصل، كان له معنى آخر. معنى الطمأنينة.

الطمأنينة بأن بجوار صاحب القرار ناصح ومستشار لا يتصف بالأمانة والإخلاص فقط، لكنه أيضا صاحب الكفاءة والقدرة والخبرة. أن هناك من يحلل، ويعرف البدائل، ويعين على تحديد مسار، ورسم خاطرة طريق. أن هناك من يفهم العالم بتعقيداته التي باتت تعيينا، ويعرف مراكز القوى فيه، وأشخاصه المؤثرين، لا معرفة نظرية أو دراسة أكاديمية أو قراءة متمعنة فقط، بل وأيضا معرفة شخصية شكلها تاريخ من اللقاءات، والأخذ والرد والحوار والوفاق والاختلاف. وهي طمأنينة ترتاح لها العقول وتقلق إن غابت.

ولعل في عمق ومدى وصدى وفاة سعود الفيصل بين الناس، هو قناعة بدأت تتجذر في أنه لا يمكن فصل الداخل عن الخارج، وأن ما يحدث على الصعيد الداخلي في بلد ما، لا بد وأن يؤثر ويتفاعل أخذا وردا، وانعكاسا وامتدادا لما يحدث في الخارج. وأن القدرة على التعامل مع "الخارج" لا بد وأن تكون أساسية ومحورية ومرتكزا للتعامل مع "الداخل"، وأن من يفهم "الخارج" بقواه وشبكاته وتياراته وتحالفاته، قادر أيضا على أن يضيف إلى فهم "الداخل" ورسم ملامح صورته، وبلورة ديناميكية التطوير والإصلاح فيه؛ وأن سعود الفيصل كان ذلك الرجل.

يبقى أن نقول: إن في شخص سعود الفيصل، وفي تعامله مع الآخرين، وفي تناوله لما جمع بينه وغيره من فضاءات، وفي اختياره لمن عملوا معه، وفي نظرته لمن قربهم منه، لم يلمس الناس منه انحيازا لمكان، أو لمنطقة، أو لعرق، كما كان في انضباط أدائه، واحترامه للعمل الشاق ولضرورة الفهم.. فهم التفاصيل دون إغفال السياق، فهم المفردات دون تفكيك المعنى؛ كان في تلك الإحاطة والعمق والشمولية ما ميزه عن غيره، وأوجب احترام الآخرين له، متفقين أو مختلفين معه.

لعلها أيضا التربية والنشأة التي لم تخلط بين الرفاه والنفوذ وبين ضرورة الكد والتعلم والانضباط واحترام الناس.

رحم الله سعود الفيصل بن عبدالعزيز الذي عزى عشرات الألوف أنفسهم فيه.