رحل الأمير سعود الفيصل -رحمه الله- بعد أربعين عاما قضاها في خدمة وطنه وزيرا للخارجية، كان فيها جزءا من ذاكرتنا المجتمعية والسياسية في بلادنا على مدى أربعة عقود، تابعت فيها أجيال عدة حضوره "الكاريزمي" -الذي تمتع به طيلة حياته- عبر تحركاته العالمية وخطاباته وتصريحاته، فكان جزءا من التاريخ السياسي العالمي في انه أقدم وزير خارجية في العالم، نجح خلال عهد أربعة ملوك للسعودية في الدفاع عن سياسة بلاده باحتراف واحترام شهد بهما العالم.
تمتع سعود الفيصل بذكاء ونباهة وسرعة بديهة، تعضدها قدرة لغوية تجلت في خطاباته المكتوبة والمرتجلة في المنابر المحلية والدولية، اتسمت بالهدوء والاتزان مع صلابة الموقف، والرقي في الطرح والأدب الجمّ، ولم يتخلَ عن هذه السمات حتى وهو في أسوأ لحظاته وأصعب حالاته الصحية، إذ لم تمنعه إصابته -رحمه الله- بمرض "باركنسون" من إبراز هذه الملكات والقدرات التي كان يتمتع بها.
كان سعود الفيصل شريكا في رسم سياسات المملكة التي قدّم فيها سياسة بلاده إلى العالم طوال أربعة عقود، ومثّل بلاده في المحافل والحوارات والمفاوضات الإقليمية والدولية، كان فيها المدافع عن بلاده وعن سياساتها دائما، والتي تتبنى قضايا العالم العربي والإسلامي، وكان سعود الفيصل هو قطب الرحى في علاقات بلاده المتعددة مع كثير من دول العالم على اختلاف وتغيّر حكوماتها واتجاهاتها، وأيضا على تجدد الأزمات والخلافات السياسية.
إلا أن ذلك كان رصيدا مهما يضاف إلى سيرته الديبلوماسية، تراكمت فيها خبراته في السياسة والعلاقات الدولية، ليقدم رأي ورؤية المملكة في القضايا العربية والإقليمية والدولية، حرصت خلالها وسائل الإعلام الدولية على التقاط ما تقوله المملكة على لسان سعود الفيصل عن قضية ما؛ لأنه كان يخاطب حكومات العالم باللغة التي تفهمها وبشكل صريح، ولم يمنع ذلك من كسب ثقة العالم في كثير من القضايا، والمحافظة على العلاقات والمصالح المشتركة.
كما استطاع سعود الفيصل أيضا أن يقوم بمهماته على أكمل وجه حتى في فترات النقاهة بعد العمليات الجراحية والوعكات الصحية خلال معركته مع "باركنسون" الذي لم يمنعه يوما من تمثيل بلاده، ما دام أنه قادر على ذلك جسديا، بل كانت مواقفه وتصريحاته حازمة وحاسمة حتى وهو في لحظات المعاناة مع المرض، إذ لم يمنعه "باركنسون" من أن يكون قويا بحضوره الذهني المتقد، بليغا في اختيار مفرداته وعباراته، وقد شهد العالم -قبل عدة أشهر- آخر حديثين له جاءا في غاية الأهمية، أحدهما خلال انعقاد القمة العربية في شرم الشيخ بمصر، الذي ردّ فيه ببلاغة وقوة على رسالة الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" إلى المجتمعين في القمة العربية، كما لم يمنعه ذلك من أن يعبر -بعاطفة جياشة- عن أسفه لعدم حضوره تشييع جنازة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- في كلمة مؤثرة ألقاها في مجلس الشورى السعودي، شبّه فيها حالته الصحية المتردية بحالة الأمة العربية.
لقد ترك رحيل الأمير سعود الفيصل -رحمه الله- أثرا عالميا كبيرا في مماته كما في حياته، فقد وصفته الصحافة العالمية بـ"الحكيم" و "الوزير الحضاري" مثنية على مواجهته لأزمات الشرق الأوسط مع قدرته على الحفاظ على علاقات جيدة لبلاده مع الدول الغربية، من خلال "براعة لغوية" ضمن ديبلوماسية "محترفة"، إضافة إلى "فطنة" و"طرافة" أسهمت في إيصال رسالة المملكة إلى العالم، وأنه كان "الوجه الدولي للمملكة".
وبهذا يمكن القول، إن سعود الفيصل انتصر على "باركنسون" حيا وميتا، رحمه الله، أرسى خلال رحلته في الحياة ذات الـ75 عاما، منهجا ديبلوماسيا سعوديا مهما.