يقولون دائما إن الأمكنة والمدن مثل النساء، هناك أمكنة تحبها، وأخرى تنفر منها، وثالثة تلبسُكَ وتتلبّسك.
قد يكون ذلك صحيحا، لكن الأكثر صحة أن الأمكنة بنسائها، فهن اللواتي يمنحنها شرعية الخلود في وجداناتنا، وهنّ اللواتي يضئن لياليها بأقمار الدفء الحميم، ولهذا يقول بريتون: "لا نحب الأرض إلا من خلال المرأة، والأرض بدورها تحبنا".
وقبله قال ابن عربي: "كل مكان لا يُؤنث لا يُعوّل عليه".
وهكذا، لا يكتسب المكان مكانه إلا عبر "الأنثى"، ليس بالمفهوم السطحي الظاهر للأنوثة، وإنما بالمعنى العميق لها، إذ تغدو هذه الأنثى "روحا" تكملُ المكانَ الجسد.
وإذا كانت المدن مثل النساء، فمعنى هذا أن النساء متشابهات إلى حد يقتل الإحساس بطعمهن وتميز نكهتهن.
لذا، أحب دائما أن أقول: إن الأمكنة مثل النساء، وليست المدن.. وهناك فرق، فالأولى أعمّ وأشمل وأكثر انفتاحا، أما الثانية فهي جزء من الأولى وأكثر محدودية وضيقا وانغلاقا.
تتشابه المدن إذن.. وتغرق في التكرار حتى تلغي مدنيتها التي تتباهى بها شكلا لا مضمونا، مبنى لا معنى، مما يجعلنا نحن لطفولتنا الأولى ولمكاننا الأول الذي لم يعد مكانا نطمئن فيه على ملامحنا.
في أحيان كثيرة، نصر على الهرب بعيدا تسبقنا وتسكننا الرغبة في اكتشاف مكان بكر بعذريته، ولمّا يزال يمارس عاداته الأولى في خلق طبيعته الخاصة، وفي إنتاج هوائه وعطره ومائه وكل جمالياته التي تقدم نفسها كعلاج فاعل للتبلد الذي تمنحه لنا "المدنية" بامتياز، فيعود التأمل إلى بيت البال من جديد، وتحلق عاليا عاليا في البعيد البعيد!
ثمة أمكنة تربي فيك الضجر تماما مثل امرأة "زنانة" تسألك "ماذا تأكل اليوم؟!" أربع أو خمس وست مرات في اليوم الواحد.. وثمة أمكنة توقظ فيك كل حواسك وتحوّلك "فيلسوفا" يعطي لكل ما حوله قيمة كبيرة، وأمكنة أخرى بمجرد أن تطأها حتى تنقلب حياتك رأسا على عقب كمن "سُحِر" إذ تبدأ لحظتها في حساب عمرك وكأنما خُلقتَ حينها.
هذه الأمكنة هي التي تستحق أن تتوقف عندها بالتفكير والتأمل والحنين والعشق اللذة، ذلك أنها استطاعت أن تؤثر فيك وتكتب بعدا جديدا لحياة أخرى بعد كل هذه السنين التي كادت أن تقتل الحميميّ في داخلك.
وحدها "المدينة المنورة" تملكُ خصوصية الفرق.. وروضتها الشريفة تؤكد هذا الفرق الخاص في خطورته وإثارته، فهناك تذوب كل حواسك في شيء واحد هو "القلب".. تشمّ "العطر" بقلبك مثلا، وتتذوق بالقلب وتبصر بالقلب، وتلمس الطبيعة بقلبك أيضا!
في "المدينة المنورة" تكتشف أنك عاشق فتبدأ في التصرف وفق هذا العشق تمرر يديك على "حجرٍ ما" تتحسسه جيدا فيسافر في دمك العطر. وحدها، أي المدينة المنورة، بضوئها الخفيّ الكامن في أعماقها، وحدها تدع في كل شيء في المكان ما يدل عليها، فبإمكان الحجر والشجر أن يقودك إليها.
المدينة المنورة أمكنة في مكان ينتج الطمأنينة ووداعة النفس، مثلما ينتج الورد والنعناع والجمال العظيم. المدينة المنورة أغنية قديمة تتجدد من نفسها وبنفسها ولنفسها وفي نفسها أيضا. لا شيء من الخارج يصنعها، هي تصنع نفسها من الداخل، لتؤكد أن المدنية مضمون وموضوع أولا، فهي، كما هو مفترض، تُمارَس لا تُقال، عبر التفكير وعبر الرؤية بدءا ثم تحقيقهما ثانيا.. وفي "المدينة" وحدها يتحقق ذلك بمضمون راق وقوي وإن اختفى الشكل البراق تماما، ذلك أن لمعتها في الباطن لا الظاهر، في البعيد لا القريب، ولذلك ينكشف الحجاب كلما ابتعدنا في حب المدينة المنورة وعشقها المستحيل!
وفي المدينة المنورة، يغدو لكل شيء معنى، ولكل معنى فلسفته الخاصة به، فقد كنت فيها قبل أيام، في ليلة خاطفة عدت فيها أو عاد فيها الفكر إلى نقطة الصفاء الأول، وغمرت روحي نفحات "الإشراق" الحقيقي على إيقاع النشيج، نشيج التائهين "العارفين" بأنهم لا يعرفون حقيقة سوى شوقهم المستمر إلى "الانخطاف"، كان هذا النشيج حزينا وعذبا يقطر شجنا ولوعة حارقة!
وفي "المدينة" العشق مثل الماء.. والماء مثل دلالها.. ودلالها هو الوحيد الذي يستطيع أن يحولك إلى عصفور مهمته الطيران والتحليق على الدوام. هكذا غدت المدينة المنورة ذاكرة لي، ذاكرة تمدني بدفء الغمام الجميل، فكلما أكون فيها ألمس السماء في كل لحظة، ثم أنام لأصحو وألف عصفور يخرج من ضلوعي.
هل قلتُ شيئا؟ لا أظن، فمن يعرف المدينة المنورة جيدا، وتسكن روحه في روضتها الشريفة ويملأ قلبه بمحبة الراقد الكريم فيها المصطفى عليه الصلاة والسلام، ثم يرتكب الكتابة لها وعنها وفيها لن يقول شيئاً ولو تكلم وكتب لآلاف السنين.