تراجع الاندفاع للرواية، الحماس الذي ساد قبل سنوات قليلة وشعار "زمن الرواية " يبدوان الآن في أدنى حالاتهما أفولا، الجوائز والاحتفائيات هنا وهناك تبدو وكأنها تحاول إنقاذ "الصنعة " لا أكثر، المواهب التي تحاول أن تكتب بالكاد تكون مبشرة، قبل ذلك كان زمن "النثر" نصا أو قصيدة والتي صعدت عبر "الشعرية الجديدة " وجذبت ما جذبت في سجالها المثير وجدلها الذي أفضى إلى "زمن الرواية ".

اليوم نحن أمام مرحلة جديدة بوسائلها وتعبيراتها، بأدواتها وأوعيتها اللغوية والفنية مع تحديات التكثيف والاختصار. لا أظن أن الحرية وتجاوز الحواجز الاجتماعية والسياسية والمحظورات الأخرى المتعارف عليها تمثل قضية وهاجسا كما كان سابقا، اليوم التحدي ليس في حرية التعبير والكتابة بل في الأنماط والأشكال.

فرضت التقنية ووسائلها واقعا جديدا ومختلفا، الإيقاع الزمني والتسارع الحدثي يلقيان بثقلهما على الأمر برمته أيضا. النجاح سريع والفشل أسرع، دخلت أنماط ونماذج. التدوين يبدو حالة جماعية ترصد انفعالات يومية بشروط أقل، تراجعت المنابر الكلاسيكية كمؤسسات واتحادات ودور نشر أمام المشاريع الفردية، وأصبح للكاتب مؤسسته واتحاده ودار نشره الذاتية.

في السابق كان الصراع أو النقاش حول الأجناس والأشكال الفنية، جمالياتها واشتراطاتها وملاءمة كل منها لما هو عصري وحداثي، اليوم لا يوجد نقاش حول هذا، مرحلة مربكة بكل ما فيها، سياسيا واجتماعيا وثقافيا، في حين أن الأمر لا يبدو مثيرا لحماسة النقاد الذين فيما يبدو انخرطوا في متاهات السياسة وتمايزاتها التي فرضها الواقع الجديد، راكضين بـ"حماس طفولي" نحو نقاشات حزبية أو مصالح هنا وهناك، لا أحد متحمس لرصد الحالة أو تدوينها، لكن وفي كل الأحوال تحتاج المسائل إلى وقت حتى يمكن استيعابها، لكن في كل ما يحدث نبدو أقرب إلى المرحلة الأوروبية في نهايات الحرب العالمية الثانية، يبدو أننا على ذات الطريق، ذات الهموم، ذات الظروف المتشابهة زمنيا واجتماعيا وسياسيا وربما تتشابه النتائج، الحماس الكبير والحرية المندفعة وعمق الإحباط على ما آلت إليه الأمور في المنطقة كذلك الحجم الهائل للمآسي والاحتراب الطائفي والمجتمعي قد يشكل ملامح أساسية تدلنا على ما قد يحدث في الكتابة.