مع بداية أزمة سورية وظهور وحشية النظام السوري للإعلام العالمي؛ حصل تعاطف عالمي واسع مع الثورة السورية، وكانت هناك ضغوط عالمية وأخلاقية على الدول الكبرى كي تتدخل في حل الصراع، وإيقاف النظام الذي يقتل شعبه بأبشع صور القتل والذبح! وكادت أن تتشكل في ضربة عسكرية أمريكية لولا تسليم الأسد لسلاحه الكيماوي!

ما الذي حصل بعد ذلك؛ مع اشتداد الثورة وانفلاتها، بدأت الحركات الثورية والمقاومة تتشكل هنا وهناك، والحقيقة أن النظام السوري الوحشي لديه خبرة طويلة في العنف، وكيفية خلق الأجواء التي تخدمه، ولذلك سلط الأضواء على تنظيم القاعدة هناك "جبهة النصرة" فيما بعد، ثم جاءت الصاعقة حيث أعلن التيار نفسه تبعيته للقاعدة، وكان وقتها يشكل قوة لا بأس بها بالمقارنة ببقية تيارات المقاومة آنذاك، بدأت تتخافت أصوات التعاطف العالمية مع السوريين، جاءت بعد ذلك وحشية داعش لتكون القشة التي قصمت ظهر البعير ليختفي معها التعاطف العالمي مع الثورة ضد طغيان النظام!

أنا هنا لن أتحدث عن النظام السوري وميليشيات إيران الوحشية في سورية، فالكلام هنا له جانب سياسي كبير ليس من مرادي نقاشه، ولكن أريد أن أركز على أمر سنواجهه مستقبلا حتما، وهو ماذا لو انتهت داعش وبقيت الساحة بمن فيها، من إسلاميين بأطيافهم المختلفة وتيارات علمانية وعرقية كالأكراد وهكذا، ما المشهد الذي يُتوقع أن يحدث؟

بنظري أن "داعش" ما هي إلا مجموعات متخلفة ورجعية، تعادي كل من حولها، وليس لها حليف في العالم كله، وبالتالي فإن الظروف بمجرد أن تتهيأ فإنها ستختفي وتذوب، ولكن ماذا بعد ذلك؟ هل صلب الفكر الداعشي مقتصر على داعش فقط؟ هل من المتوقع أن ترضى الجماعات الجهادية هناك بحل حضاري لطريقة إدارة الدولة ومستلزماتها المعاصرة؟ وهل يمكن لفكر تلك الجماعات أن يتعايش مع ظروف العصر وتعقيداته؟

لا أريد أن أكون سوداويا، كما أنني لا أريد أن أظهر وكأني خصم لتلك الجماعات، بل الحديث هنا والله حرقة على مستقبل إقليمنا الذي امتلأ من الدماء والقتل، والسبب الأساسي والله ليس من الخارج وتدخلاته كما يزينه البعض لنا، بل المشكلة فينا ومتجذرة أيضا، ويجب علينا أن نكشفها ونبحث عن حل، بدلا من لوم الآخرين والمرض فينا ويستشري!

لا شك أن الطرف الأقوى في الأزمة السورية هو التنظيمات الدينية سواء الشيعية أو السنية، والسبب بوضوح أن هذه التيارات تمتلك عقيدة قتالية قوية، ولديها روح وإصرار قتالي إيديولوجي دافع لها في الصمود والقتال، بخلاف بقية التيارات التي لا تحمل عقيدة قتالية واضحة تُمكّنها أن تصمد أمام التيارات الدينية. وللأسف فإن الاستغلال الإيراني ومن خلفه النظام السوري الوحشي للحشد الطائفي كاستراتيجية للبقاء والتمدد؛ دفع بالطرف الثاني لينتهج نفس النهج الطائفي، ونجحت السياسية الوحشية في تحويل الصراع من صراع بين الشعب والنظام الوحشي ليظهر وكأنه صراع بين التطرف الشيعي والسني!

ولكن مع علامات انحسار النظام الوحشي ولو جزئيا؛ ما النتيجة المتوقعة في الداخل السوري؟

قبل أن أجيب عن السؤال، يجب أن نذكر أن أهم وأقوى التيارات المسيطرة على الأرض السورية هي داعش وتليها جبهة النصرة، اللذان يتداخلان في الكثير من الأفكار، فكلاهما كانا ينتميان إلى القاعدة ونفس الفكر الجهادي السلفي، إلى أن استقلت داعش بعد مقتل ابن لادن. أما بقية الفصائل التابعة لما يسمى بالجيش الحر؛ فهي في الحقيقة يتداخلها الإسلاميون وغيرهم، ولا يجمعها في الحقيقة عقيدة قتالية واحدة، أو انضباط عسكري يمكن الاعتماد عليه في المستقبل.

المحصلة أن من أهم التيارات هناك هي الفصائل ذات البعد السلفي الجهادي، وهذه التيارات معروفة بعقيدتها التكفيرية وإن كان هناك تفاوت بينها! السؤال الأول؛ هل سترضى هذه التيارات بالحل الديموقراطي والانتخاب والتعددية مما يساعد على الاستقرار بعد أفول النظام؟ والجواب وبوضوح أن أدبيات هذه التيارات معروفة، وهي بدون أدنى شك تعتبر مجرد القبول بهذه الحلول نوعا من الكفر، فضلا عن قبولها بدخول تيارات تعتبرها كافرة كالعلمانية أو المسيحية أو العلوية مثلا! فهي تيارات في غالبها تكفر الحكومات الإسلامية الحالية بلا استثناء، بما فيها الدول التي تعتمد الشريعة الإسلامية كالمملكة، ومعلوم الصراع الطويل مع القاعدة في المملكة والعائد إلى التكفير في الأساس!

هذه التيارات أيضا لها آراؤها المتشددة فيما يتعلق بالمجتمع الدولي والتعامل معه، ولا تعترف بحقوق الأقليات في إطار المواطنة، فضلا عن مشكلاتها مع الحريات والحقوق المعروفة والتي شوهوا فيها الإسلام وتاريخه!

إذن ما الواجب علينا؟ هل واجبنا فقط التستر على هذه النقاط ومحاولة التقليل من شأنها؟ أم أنه بمواجهتها ومعالجتها قدر الاستطاعة؟ وأنا أتحدث هنا وأخص العلماء والمشايخ والخطباء بأن يتأملوا في المشكلة بعمق، وأن يتم بحث هذه القضايا بعقل معاصر متجرد في الاجتهاد، مستبعد عقلية التقليد والاستنساخ لآراء الأقدمين بما فيها من صواب وخطأ.

كلٌّ منا يُنظِّر ويتكلم وربما يخطب بصوت عالٍ؛ ولا ندري أين مصير هذه المنطقة في السنوات المقبلة؟ وما مصير كل تلك الدماء والأنفس، هل ستقضي علينا للأبد، أم أنها ستساعدنا في استنهاض عقولنا وقلوبنا قبل عواطفنا الجيّاشة؛ لإصلاح مشاكلنا الفكرية الحقيقية قبل مشاكلنا السياسية؟ الله أعلم!