لعل من أظهر الأمور في داعش هو قدرتها على استقطاب الشباب من كل أنحاء العالم. صحيح أن أكثر المنخرطين في التنظيم هم من الشباب السعودي والتونسي والمصري؛ وذلك لأسباب خاصة في كل بلد إلا أن الظاهرة لا تقف عند هؤلاء الشباب؛ بل تتعداهم إلى انخراط الشباب في كل مكان ومن الجنسين، فضلا عن كون بعض من هؤلاء الشباب لم يكونوا من الفقراء وإنما من ميسوري الحال، كان آخرها خبر ذهاب شباب وفتيات إلى داعش كان منهم ابنة وزير الخارجية كما قيل في الصحف، وابن لأحد الأستاذة الجامعيين في (أكسفورد) من السودانيين، فالفقر الذي يعيشه السودان لم يكن أحد الأسباب التي جعلت الشباب يذهبون هناك بل من ذهب هم من ميسوري الحال وذوي القيمة الاجتماعية. قد يكون فعلا للفقر دور في مسألة الذهاب إلى داعش، ولكن ليس هو السبب الكبير؛ بل هناك أسباب أخرى يحاول هذا المقال أن يجادل حولها.
قدرة داعش على استقطاب الشباب إلى صفوفها يضعنا أمام تحولات عديدة على مستوى الدول وعلى مستوى الخطاب المعولم الذي تمارسه داعش في استقطابها لهؤلاء الشباب، فالدولة الحديثة هي دولة "البرجوازية" ذات الصفات المحددة التي تضع خيارات محدودة تجاه المجتمعات، فضلا عن أن الكثير من الدول تمر بأزمات سياسية من الناحية الاقتصادية والتنظيمية البيروقراطية، وتضخمها أمام الحياة اليومية خاصة تلك التي كانت الرأسمالية فاعلا قويا في نشوئها.
الدولة الحديثة البرجوازية هي دولة رأسمالية وعند الاشتراكيين فإن مثل هذه الدولة ستكون مع الوقت أمام أزمات عديدة. تتضخم رؤوس الأموال في عدد من الشركات الكبرى فيما يبقى المجتمع ميسور الحال، لكنه ليس مجتمعا غنيا ما يعني تضخم عدد من البرجوازيين في مقابل الشعب. تطرح الاشتراكية بعض الحلول التي قد تكون بعيدة المنال الآن وأقرب إلى اليوتيوبيا "الطوباوية" أكثر منها حلولا واقعية لكن نقدهم للرأسمالية فيه شيء من الصحة، والدولة الحديثة المتضخمة بيروقراطيا تعمل على اللاعدالة الاجتماعية وخاصة تجاه فئة الشباب في كثير من الأمور.
أما عن خطاب داعش المعولم فإنه يدور حول كونه خطابا يحقق طموحات اليأس الشبابي، فهو خطاب عالمي يستخدم عالمية الدين الإسلامي لتعزيز فكرته وما شعار: "باقية وتتمدد" إلا نوع من محاولة التمديد الفكري لخطاب داعش، فهو خطاب يستخدم كافة الوسائل العالمية لفرض خطابه ويستخدم العولمة لضربها من الداخل وتقويضها وبناء منظومته الفكرية بنفس الآليات، ولذلك نحن نرى أن الظاهرة لم تكن مختصة في شباب السعودية أو الشباب العربي؛ بل تعدته إلى الشباب في أوروبا، ما يطرح تحديا جديدا في وجودهم؛ إضافة إلى أن الشباب الذين يلتحقون بداعش ليسوا من الطبقات المطحونة أو الفقيرة في المجتمع، بل بعضهم كانوا أطباء، وبعضهم أبناء مسؤولين، وبعضهم أبناء أساتذة جامعيين وغيرهم، ما يعني أنهم من الطبقات المتوسطة ميسورة الحال وهذا هو التحدي الذي يواجه الدولة الحديثة بكل مقوماتها الفكرية والاقتصاد، وحتى خطابها المعولم أمام قدرة داعش على الاستقطاب.
الشباب في عدد من الدول العربية والأوروبية محبطون من تحقيق مفهوم العدالة الاجتماعية، فكل الوعود الطوباوية التي كانت تقول بها الدول، خاصة ذات الاقتصاد المتضخم لم تحقق الطموحات الشبابية في صناعة حراك شبابي قادر على التغيير في البنية الاجتماعية، وذات تأثير على سياق الدولة، فالسلطة الاجتماعية والدينية والسياسية هي في يد أفراد محددي الأعمار والاتجاهات، دون أن يكون تحقيقا لطموحات الشعب وتحديدا في فئة الشباب.
لا يقتصر ذلك على الدولة السلطوية، فحسب وإنما تتجاوزها كذلك إلى الدولة الديموقراطية، فحتى هذه الدول التي يأتي منها بعض الشباب هي دول أقل من الطموحات الشبابية، إضافة إلى كون الديموقراطية لم تستطع أن تحقق السعادة الإنسانية على الرغم من كل الوعود التي يبشر بها دعاتها، فبعد تجارب طويلة تحولت الديموقراطية الشعبية إلى ديموقراطية نخب، يلعب المجال الاقتصادي والإعلامي لعبته فيها، ويعيدنا هذا إلى الكلام الأول إلى كون الدولة الحديثة هي دولة برجوازية الطابع.
لا يعني هذا الكلام أن "داعش" تحقق طموحات الشباب بل العكس تماما، فالخيارات التي تطرحها داعش هي خيارات مدمرة فلا خيار غير خيار العنف، لكن قد يكون هذا التدمير هو طموح اليائسين في اختيار العنف، ويتمثل ذلك في حرص داعش الغريب والمستفز على تصوير إعداماتها الجماعية بطرق متعددة كان آخرها الإحراق والإغراق، وحشر الناس في سيارة صغيره وتفجيرها عن بعد، وهذا يحقق لدى الشباب انفجار ذلك الكبت، وتحول الخيارات السلمية إلى خيارات نحو العنف الذي هو الخيار الأخير الذي يستطيع الشباب تغيير ما يريدون تغييره حتى ولو كان خيارا خاطئا. إضافة إلى أن "داعش" تروج لشبابها بأنهم يعيشون حياة طوباوية تصنع في مخيلة الشباب الكثير من الحلم في التأثير، خاصة في مخاطبة أكثر الغرائز الإنسانية تفجرا وهو الجنس، حينما يصور الدواعش أنفسهم وهم يوزعون السبايا على أفرادهم، ورغم لا معقولية هذا التصرف في الدولة الحديثة إلا أنه حلم الكثير من الشباب في إعادة عصر (هارون الرشيد) وجواريه الذي ألهب مخيلة الشعوب العربية، ولذلك صارت داعش البديل المدمر لخيارات الشباب في ظل اليأس من مفهوم تحقيق العدالة الاجتماعية والتأثير في المجتمع في جميع جوانبه: السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حتى يكتشف كثير من الشباب بأن "داعش" ليست هي الخيار الجيد بعد انخراطهم فيها، لكن لم يعد في الأمر من خط للعودة فتكون هي نهاية هؤلاء الشباب.