في المقال الماضي تحدثت عن سوء التعامل مع الفلسفة الغربية، وهذا يحدث في رفض أكثر الأصوليين لفكرة الفلسفة من أصلها وتصويرها على أساس أنها إقحام للدين منذ نشوء الفرق وانشقاقها وبروز كل فرقة بمنطقها الخاص في فهمه، لكن الأسس التي تبنى عليها بعض الخطابات الدعوية تأتي من قاعدة إقصائية ومتعصبة، حتى إن البعض منها ذهب إلى اتجاهات ذات نزعة عصبية سلطوية، يبرزون آراءهم من منطق الأحقية والجرأة في توظيف النصوص حد ظنهم أن الدين حكر على فريقهم.
تكمن المقاربة الفكرية الشائكة في تموضع الخطاب الديني بين محورين، بين الاتهامات وحدة النقد وبين الموقف الفقهي المتزمت، في حين أن التنافر بين الآراء أخذ في تعزيز نظرية الإبقاء على تأصيل الخطاب، أي أن هذا الاعتداد يأتي من صنع موقف ضدي يدعي الاستقلال بذاته إزاء المختلفين، ويظهر العجز لهذا الموقف في الشعور بالعداء والتعصب ضد اتهامات التخلف كون هذا السلوك هو الطريقة المتاحة للرد.
يتناسى الإسلاميون الأسس التي بنيت عليها الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، حين بنيت النهضة الفكرية في تلك الفترة نتيجة لجهود الفلاسفة والشعراء والفنانين الذين صنعوا ثقافة صدّرت تأثيرها للقارات، حيث تضمنت أشكالا من التبادل العلمي والمعرفي والثقافي على اختلاف اتجاهاته بين المسلمين وغيرهم من المجتمعات والثقافات الأخرى، فقد كان التدين في تلك الفترة أكثر تعايشاً وانفتاحا، حينها قابلت الآراء الحرة والمبنية على أسس المشاهدة والتجريب الكثير من الحركات النقدية للفلسفة كاتجاه قوي يرفض الخوض في المسلّمات. والموروث مملوء بالأمثلة والسجالات التي تموضعت في إطار يسمح بالحوار والتفاعل بين تيارات مختلفة يحتضنها المجتمع الواحد، فيما تجد أن "المؤدلجين" اليوم يفتخرون بالحضارة الإسلامية، وهم في الأصل يتهمون المفكرين والفلاسفة بالزندقة والتجديف، وهذا يعني أن الخلل في منهجهم، إذ يرون أنه يتوجب على المفكرين أن يخضعوا لموازينهم ومعاييرهم الخاصة في استنتاج أفكارهم.
لا يزال العقل الفقهي قائماً على كون الفلسفة تلغي الدين وتخالف الشريعة، وهذه البنية النظرية قام عليها الكثير من الآراء لدى الباحثين والمؤلفين في هذا المجال حتى أصبحت مرضاً متجسماً، والإشكالية مزمنة في قصور الفهم الذي سبّب عجزاً في تكوين منهج تاريخي يُعنى ببناء الفلسفة من رؤية علمية وشرعية؛ لأن التاريخ هو الدافع الحقيقي لتطوير أساليب الحياة وإيجاد التكامل للتاريخ الفكري والإنساني.