إنه المفترى عليه، إنه المسرح الذي يروج عنه المروجون بأنه لم يعد يجتذب الناس، وأنه أصبح سلعة بائرة في خضم التقنية الحديثة والسينما والإعلام وتعدد القنوات وما غير ذلك!
وإذا تأملنا ذلك في ضوء الطبيعة البشرية والفطرية التي فطر عليها الإنسان لوجدنا أنه فطر على الفنون وعلى اللعب والمثيل والتقليد والضحك والبكاء، وهي كل ركائز المسرح إن جاز التعبير.
فالحكايات والأساطير البديعة ستبقى آثارا خالدة وفريدة وتشهد على ذاك العصر، يوم كان الوعي البشري يشعر أنه في تداخل سيال وفي وحدة بهيجة مع الطبيعة، فوقتذاك وببساطة ودون عناء أو عذاب كان الوعي يُخضِع العالم لروحيته المستفيضة التي لم تستطع في البدايات أن تكون محددة ومحدودة، بل كانت كأنها تلعب وتتمتع ببراءتها بسلطة على الأشياء غير مثقلة نفسها بردود الفعل حول مدى التوافق بين تصوراتها والأشياء الحقيقية، فكل الأفعال التي تتم بصورة تلقائية عفوية وفطرية ليست إلا بحثا غير مقصود عن كمال الصورة واتساق النسق الداخلي للإنسان وإيقاعه مع الحياة مما يحدث المتعة.
إن رقصة الصيد هي في مكان يتوسط المعرفة والنشاط المادي العلمي، فهو يتعزز بينهما، إنه رمز وتجسيد لوحدتها، ويختلف عن الحدث الواقعي في غياب المادة الحقيقية أي غياب المضمون، بل غياب النتيجة الفعلية، فالعمل أو النشاط في الفعل التركيبي يغدو متعة، ومصدر هذه المتعة يكمن في حرية التحكم في مادة العمل وفى ظروفه. وفى مادة العمل تظهر المعرفة.
إن المعرفة وما في وعينا من معتقدات وأفكار وتصورات ليست غاية وإنما هي وسيلة، مادة يتكون بواسطتها الفعل بوصفه بنية نموذجية محددة. بالتالي فالإنسان هنا يتلقى المتعة في النشاط التشكيلي، هذا النشاط الذي يكمن مضمونه في ذاته، وقد مارس الإنسان القديم طقوسه وفنونه وأعماله بمتعة فائقة رغبة داخلية منه في التواصل مع العالم وفي إرساء جسر المعرفة، ثم المتعة بينه وبين العالم بغرائزه الفطرية التي صنفها (أدموند هولمز) بغرائز ست قابلة للتعليم، وبهذه الغرائز الست التي ذكرها هولمز استطاع الإنسان أن يحاول صياغة عالمه، ولكن الدعامة الكبرى التي كان يعتمد عليها الإحساس، فبالإحساس والتعاطف والانفعال صاغ تاريخه الذي ورثته البشرية من بعده. وبذلك يستمر الإنسان في البحث عن المتعة بشكل سيال، وللفطرية والبدائية شأن واسع النطاق في تحقيق ذلك التلامس المعرفي، فـ"الفطرية" هي سلوك تلقائي تتجسد فيه تلك الممارسات البشرية في صياغة الفعل. إلا أن عالمه يتأرجح بين المحسوس والملموس لما في وجوده العام من عقائد مختلفة.
المحسوس والملموس منطق فلسفي يبحث في معتقد يتسرب إلى الوجدان بين هذين الحدين للخلاص من ذلك القلق الإنساني الدائم، والذي تبحث الذات عن الالتصاق بالموضوع منذ أن هبط الإنسان على وجه الأرض، ويتجلى ذلك في الفنون الإنسانية، كذلك فإن للتعاطف دوره في الإحساس بالأشياء، إن كلمة التعاطف تعني الإحساس، فإننا حين نشعر بالتعاطف مع الإنسان المخزون فينا فإننا نزج بأنفسنا داخل إطار هذا العمل الفني وستتحدد مشاعرنا تبعا لما سنجده هناك وتبعا للمكان الذي نحتله، وليس من الضروري أن تكون هذه التجربة مرتبطة بملاحظتنا للأعمال الفنية فمن الطبيعي أننا نستطيع أن نزج بإحساسنا في أي شيء نلاحظه، ولكننا حينما نعمم القضية بهذا الشكل لا يكون هناك سوى تمييز ضئيل بين تسرب الانفعال والتعاطف من هذه الإحلالية والاندماج الذي يسلكه الفنان الإنسان، فما هي إلا ذوبان في ذوات الأشياء للخروج منها بما يسميه علماء النفس بالمتعة والتي قد تحدث صدى في نفس هذا الإنسان للتجسيد والوصول إلى محسوسات بدلا من الملموسات. "في الإمكان أيضا امتصاص الذوات الأجنبية امتصاصا جماليا ومع ذلك لا يقوم التوكيد عندئذ على فهم أو توكيد تلك الذوات وسلوكها الفردي وإنما يقوم على تقمص وجداني نفساني لناحيتنا الذاتية يمتد بواسطتها الشيء كما يمتد فيه مخترقا له".
ولقد أسهبنا في هذا المقام لأننا رأينا على أرض الواقع ما ينطبق على النظرية! وهو ما حدث في مهرجان آفاق المسرح في جمهورية مصر العربية.
هذا المهرجان قام على تأسيسه الفنان هشام السنباطي، ثم قامت برعايته وزارة الثقافة. وكان ذلك إبان الثورة المصرية وكانت في أوجها وكانت كل الفنون شبه متوقفة عدا مهرجان آفاق، وقد شرفت بأنني عضو في الهيئة العليا لهذا المهرجان ومن أحد أعضاء لجان التحكيم. وكان في مخيلتنا أننا فقط نشبع شغف محبي المسرح ورواده، خاصة في فترة كانت محبطة بكل ألوان الطيف، لكن المسرح كالوردة لا تولد إلا في حضن الشوك، فكان مهرجان آفاق يتفتق في كل المحافظات، وكانت لجان التحكيم من كل أنحاء مصر وأغلبهم متطوعون، وكانت العروض تنهال حتى وصل عدد العروض في الموسم الواحد إلى ما يفوق 300 عرض مسرحي واللجنة الواحدة تشاهد ما يقرب من خمسين عرضا. عدد مهول من العروض وتدفق الشباب، والأغرب من ذلك هو تدفق الجمهور، فقاعات العرض تمتلئ كل ليلة، وفي كل المحافظات بالتوازي. فيستمر المهرجان في تصفيات ثلاث على مدار العام حتى يخرج 20 عرضا من أروع ما رأيت في حياتي في المسرح! وها هو في دورته الثالثة، وكل دورة يشارك فيها ما يقرب من 300 عرض بمعنى ما يزيد على 3 آلاف شاب يلعبون المسرح في الموسم الواحد، بمعنى ما يقرب من 10 آلاف فنان ومشارك في دوراته الثلاث، وعلى الرغم من أن ميزانية هذا المهرجان لا تتعدى 40 ألف جنيه مصري. ومن هنا تتأكد النظريات إذا ما ذهبت للتطبيق، وكذب المفترون على المسرح ولو صدقوا.