لم يتوقف سيل المبادرات لحل الأزمة السورية منذ أربع سنوات ونيف، وقد خاض هذا السيل سباقاً محموماً مع سيل الدم في تلك البلاد النازفة.

ولم يبق أحد، لا دولة ولا منظمة ولا مجموعة من ثلاثة أصدقاء، إلا وطرح مبادرة لحل الأزمة السورية، ووقف نهر الدم، ولم تمتلك أي مبادرة منها قيمة واقعية أكبر من قيمة الورق الذي كتبت عليه، وربط كل مبادرة بوقف سيل الدم كان في كل مرة محاولة لإعطاء مبرر لها، ولإخفاء حالة التنافس بين السيلين.

لم يسبق أحدهما الآخر ولا مرة واحدة، ظل كل واحد منهما يمشي في مسيله الخاص، الدم يسيل هكذا.. والمبادرات هكذا. لا أحد يعبأ بالآخر، التفاتة خاطفة من حين لآخر، ثم يعود كل مسيل ليمتلأ بمادته الخاصة.

الموت هناك يحدث، لأن الموت يحدث، والمبادرات تحدث، كي لا يقال إنها لا تحدث. ليس لها وظيفة أخرى، وإن كانت تحقق بعض الفوائد الثانوية لبعض الوجوه وبعض السياسيين ولكل وسائل الإعلام.

مبادرة هذا الأسبوع جاءت من موسكو -وهي ليست الأولى التي تأتي من هناك- وتحمل خلطة سياسية أقرب للشعر الحديث، وقد جاءت مقسمة إلى كتلتين، واحدة تم طرحها أثناء زيارة وليد المعلم لموسكو الأسبوع الماضي، والثانية تم تسريبها عبر وسائل الإعلام، واجتماع القطعتين يشكل مبادرة الأسبوع، فنحن في كل أسبوع بحاجة إلى مبادرة، كي نستمر بالكلام وبالحياة وبالتالي بالقدرة على الموت.

القطعة الأولى جاءت على شكل دعوة لتنسيق عسكري أمني بين عدة دول وقوى لن تقبل ولا واحدة منها هذا التنسيق، والقطعة الثانية جاءت على شكل دعوة لتشكيل حكومة وحدة وطنية من النظام والمعارضة، وهو ما لن يقبل به لا النظام، ولا المعارضة.

إذًا نحن أمام مبادرة سياسية يمكن لعقولنا البسيطة أن تبسطها إلى عناصرها الأولية في محاولة لفهمها: تعاون سياسي بين النظام والمعارضة، وتعاون عسكري بين النظام والمعارضة والقوى الإقليمية والدولية لمحاربة "داعش"، فلكي تنجح هذه المبادرة يجب أن تتفق مجموعة من العناصر على تحقيق أركانها، وهذه العناصر هي: النظام السوري، المعارضات السورية، دول الخليج، تركيا، إيران، وبالطبع الولايات المتحدة وروسيا.

هل من معنىً أو داعٍ لنقاش موقف كل واحد من هذه العناصر تجاه الآخر؟ أو تعداد ما يجول في خاطره إذا فكر مجرد تفكير بهذه المبادرة؟

ألن تفكر القوى والدول الداعمة لثورة الشعب السوري -أول ما تفكر- بأن هذا الأمر قابل للتحقق إذا ما رحل بشار الأسد عن السلطة، وتوقف نظامه عن قتل الشعب السوري وقصف المدنيين بالبراميل؟

ألن تفكر إيران بربط محاربة "داعش" بملفاتها الدولية وعلى رأسها المفاوضات النووية؟ وتركيا بكبح الطموحات الكردية؟ وهيئة التنسيق بحل الائتلاف؟ والإخوان المسلمون بتحجيم "حزب الله"؟

أما النظام فستدور في أروقته وعقله سيناريوهات عديدة ومتنوعة، تتراوح بين الكوميدي والجامح، ولي أن أتخيل طبيعة النقاشات التي تدور داخله أثناء نقاش هذه المبادرة:

"نوافق على المبادرة وعلى الدخول في تحالف مع القوى الشيطانية لمحاربة "داعش"، لكن عليهم أولاً أن يتوقفوا عن سفك دم الشعب السوري، ودعم الإرهاب، وأن يعتذروا عما اقترفوه بحق سورية والشعب السوري، وعلى تركيا والدول العربية أن تقول بشكل واضح إنها كانت مخطئة في فهم خطاب السيد الرئيس في مدرج جامعة دمشق، وإنها ستعود لتحلل مضامين الخطاب وتعمل بتوجيهاته، يجب أن تجتمع الجامعة العربية وتقرر الاعتذار من الحكومة السورية وترسل وفداً من ستة وزراء خارجية ليطلب من يوسف أحمد العودة إلى مقعده في الجامعة، أن يعود نيكولا ساركوزي رئيساً لفرنسا، وعبدالله غول رئيساً لتركيا ورجب طيب إردوغان رئيساً للوزراء، ثم يجتمع الخمسة معاً ويعلنون في مؤتمر صحفي مشترك أنهم يستقيلون من جديد اعترافاً بخطئهم في حق السيد الرئيس بشار حافظ الأسد، وأن تتم دعوة هذا الأخير لمؤتمر الاتحاد من أجل المتوسط، وأن يقام المؤتمر من جديد خصيصاً لهذه الغاية، وأن يرتدي السيد الرئيس بدلته الزرقاء المتناسبة مع لون البحر الأبيض المتوسط"!

إذًا النظام السوري مستعد للتعاون والتحالف في محاربة "داعش" وفق المبادرة الروسية.. هو يريد فقط مناسبة ليرتدي الرئيس بدلته الزرقاء.