بين المؤسسة التقليدية والفضاء المفتوح يتراوح المثقف الجديد، ذلك الكائن المعلوماتي المتماهي مع المعطى الحضاري والتقني على وجه الخصوص، والمرتهن في اللحظة نفسها إلى المضامين الفكرية المتصلة وذات الجذور العميقة.
المثقفون الجدد من الجيل الشاب يعيشون حالة حرجة؛ فلا هم أولئك الموالون دوما للمؤسسة التقليدية بكل تفاصيلها "البيروقراطية" من جهة، وليسوا بمنعتقين الانعتاق كله من حاجتهم إلى الارتباط بها ولو على استحياء من جهة أخرى، كونها تمثل هيكلا معلوم الملامح على عكس الأقنية المفتوحة والمساحات غير المحدودة التي تفتقد إلى الرسمية وحفظ الحقوق الفكرية والإبداعية. غير أنهم يرون أن المؤسسة لم تستطع حتى الآن أن تواكب حراكهم الحالي، ناهيك عن ضعف مقدرتها على استشراف المستقبل فيما يتعلق بقراءاتهم المعمّقة المتجهة بسرعة صوب زمن مقبل يتلمسون ملامحه محاولين رسم أطره وأبعاده ومكوناته.
نحن إذن أمام فجوة تشكلت بين مؤسسات الثقافة التقليدية وبين المثقفين الجدد، ولتشكلها عدة أسباب، لعل منها أن المؤسسة التقليدية لا يمكنها توفير المساحة الكافية للفاعلية الشبابية المنطلقة، إذ إن للمؤسسة نظمها ولوائحها، وعليها كذلك محاسبية ومعايير تقويم للمنجز، فليست مستعدة للمغامرة المجهولة العواقب، ومنها أن جيلا من المثقفين المبدعين الرواد غيبه الموت أو المرض أو حتى العزلة، فلم يتصل الجسر بينهم وبين الشباب؛ ما جعلهم –الشباب- مفتقدين نقاط البداية المؤصلة والتي لا يعرفها سوى الرواد المغيبين. أمر آخر يتمثل في جاذبية عصر التقانة والمعلوماتية بما مكنته من ميادين رحبة للركض الفكري والإبداعي، ملغية الحدود والحواجز ومحطمة السقوف فتكون الأرض منطلقا والسماء هي المنتهى، أضف إلى كل ما سبق أن الرؤية الجديدة التي يعتقدها المثقفون الجدد تقدم أطروحات مغايرة تتوجس المؤسسة منها، أو تنفر، وقد تحاربها وتعمل على مقاومتها والتصدي لها في أحايين كثيرة، هذا –وحده- يوسّع الفجوة، ويهدم ما تبقى من وشائج، ويهوي بالجسر إلى قعر سحيق.
جمعني لقاء ماتع مع رمزين رائدين من جيل الثقافة والأدب في مدينتي الخضراء أبها، كان لبّ الحوار حول عدم وجود نقطة التقاء تجمع هؤلاء مع أولئك، الرواد مع الشباب في حضور مستدام، وتعاط فكري متواصل ضمن إطار الاسترشاد والإفادة، وكذلك الإمداد بما يفتح غموض الأفق أمام الجيلين، فهنا خبرة وتجربة، وهناك اندفاع وحماسة ومقدرة، غير أن الحالة لا يمكن وصفها سوى أن الجيلين كليهما يعيشان في جزيرتين، ولن يمد جسور الاتصال والتواصل بين العالمين المنزويين إلا مؤسسة تعي أهمية المثاقفة والتفاعل بين المكونين اللذين هما عماد وجودها.