في المقالتين السابقتين قمت بعرض عدد من الطرق التي تميّز التفكير الأيديولوجي عن غيره. التفكير الأيديولوجي هنا المقصود به التفكير المشغول بالدفاع عن منظومة فكرية معينة بدلا من التفكير فيها. من المهم كذلك أن نذكر، كما لاحظ ذلك الصديق رياض الشمراني في تويتر، أن التفكير الأيديولوجي مدفوع بأسباب نفسية معقدة جدا. رياض أشار إلى كتاب "المؤمن الصادق: أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية" لـ(إيريك هوفر) وترجمة غازي القصيبي كمثال على الكتب التي درست الفكر الأيديولوجي من منظور نفسي.
في المقابل فإن اهتمامنا هنا مركز على التعبيرات المعرفية التي ينتجها الفاعل الأيديولوجي وليست الدوافع التي دفعته وحددت خياراته. المقالة السابقة عرضت أن الاحتجاج بالجمهور يقع في صلب الخطاب الأيديولوجي بحق وبباطل. أبرز هذه الصور هي قمع الشعب من أجل عزّة الشعب. كذلك يلجأ الخطاب الأيديولوجي إلى اختيار الممثلين الأضعف بين مخالفيهم لصناعتهم كممثلين لكل المخالفين. التصرف المتعارف عليه هو تجاهل المخالف الجاد الرصين والتفاعل بقوة مع المخالف الذي يقدم أطروحات ضعيفة وهشة. بعد "رجل القشّ" يتميّز الخطاب الأيديولوجي بحضور المراجع والشخصيات المؤسسة ذات السطوة. هذه الأسماء تحضر لحسم الخلافات وإعادة أفراد الجماعة للتطبيق بدلا من التفكير النقدي، الآن إلى المزيد من سمات التفكير الأيديولوجي:
9 ـ حجج الالتجاء إلى تجاهل ما يطلب التدليل عليه:
وهذه تعني أن يكثف الأيدلوجي الأدلة بهدف إعطاء شعور عند المتلقي أن هذه الفكرة قد أخذت حقها من التدليل وأصبحت صحيحة مدعّمة بالأدلة ولكننا حين نبحث بإمعان في هذه الأدلة نجد أن أغلبها إن لم يكن كلها لا تتعرض لصلب القضية ولا لجوهرها، فحين نستمع لداعية أيدلوجي كالخطيب الإسلاموي يناقش الأحداث المعاصرة ويسوق الأدلة والأحاديث لتوجيهها والتحكم فيها، نجد أن هذه الآيات والأحاديث قد لا تتصل بالموضوع أو أنها تدل على عكس ما يقول، أو هو يختزلها في تأويلات ضيقة محكوما في هدفه الأساسي وهو تحقيق رؤاه الخاصة وقمع ما سواها بوصفها نموذجا للفساد والضلالات. فحقيقته أنه متصرف بالنص وليس تابعا له كما يدعي، وهنا تبرز عملية الانتقاء وتجاهل الآراء المخالفة.
رهان الأيديولوجي هنا هو على الشعور الذي يمكن أن يولّده تكثيف ذكر الأدلة عن الجمهور حتى ولو لم تكن تلك الأدلة على علاقة بما يحاول الاستدلال عليه. مما يلاحظ هنا طول الخطب والكتابات الأيديولوجية الموجهة للجماهير. الزعيم المناضل الذي يتحدث لساعات عن عشرات القضايا يحاول أن يوصل الرسالة بأنه قد حسم قضايا الخلاف وبالضربة القاضية.
10- حجة البرهنة بالسبب الكاذب أو اعتبار ما ليس علة بمثابة علة.
الداعية الأيديولوجي مطالب أمام المتلقين بإبداء أسباب للظواهر المحيطة بهم، وبحكم أنه ينطلق من أفكار لا يستطيع الخروج عنها وبحكم أنه أيضا ينطلق من إرضاء المتلقين وكسب تعاطفهم فإنه يلجأ إلى اختلاق الأسباب أو إلى التحايل في جعل ما ليس علَّة بعلة.
من الشواهد الواضحة على هذا التفكير اختلاف تفسير الأيديولوجي للأحداث باختلاف الجماعة. فالحدث الطبيعي ذاته إذا حدث لخصومه أصبح عقوبة إلهية لهم على فسقهم وضلالهم وإذا حدث لجماعته كان مجرد امتحان واختبار من الله لتقوية إيمانهم. ما يحرك الأيديولوجي هنا ليس النظر في القضية ذاتها بل ثنائية الذات والآخر. إذا كانت الذات متعلقة بالموضوع فآلية الدفاع هي ما يحرّك التفكير وإذا كان الآخر هو لب الموضوع فإن الهجوم هو الآلية المتبعة. هنا لا بد من تأمل ما تقدمه "نظرية المؤامرة" من تعليلات سهلة ومطمئنة للدعاة الأيديولوجيين على اختلاف توجهاتهم يكسبون بها تعاطف الجماهير واستمرارية دعمهم. نظرية المؤامرة هي الآلية المتبعة لتبرئة الذات وتحويلها من دور الجلاد إلى دور الضحية.
11- الحجة الغيبية:
وهي تعني أن يرجع الأيديولوجي الأحداث التاريخية والسياسية وحتى الشخصية إلى الحتمية التاريخية عند الماركسية مثلاً أو القدر والغيب عند الديني، ولا شك أن هذا التفسير يعطل قدرة الإنسان على التفاعل ومحاولة التصحيح؛ لأن ما يحدث شيء خارق لا قدرة له على تعديله أو الحلول دون وقوعه مما يحدث من أحداث يعدّ عند الأيديولوجي الديني من باب الفتن التي أخبر عنها سلفا ولا حيلة لنا إلا الدعاء بأن ترفع الغمة.
الإحالة على الحتمي تحقق للأيديولوجي هدفا مهما هو إحباط المقاومة. مثلا حين يقدم الماركسي الأيديولوجي الثورات الدموية أو الانقلابات العسكرية التي يقودها ماركسيون على أنها حركة تاريخية "طبيعية" تحكمها قوانين صراع الطبقات الأزلية فإنه يحبط كل محاولة لمقاومتها ورفضها. لا معنى مثلا لمقاومة ورفض قوانين الفيزياء وغيرها من قوانين الطبيعة وهذا ما يحاول الأيديولوجي الوصول له، من خلال تحويل شروط التجربة الإنسانية الاحتمالية إلى قوانين حتمية نهائية. الأيديولوجي هنا يحاول القضاء على التفكير الأخلاقي في الواقع. الحجة المشهورة على الكوارث الأخلاقية التي تحدث ضمن إطار "الثورات" و"الانقلابات السياسية" أنها جزء من طبيعة التجربة البشرية ولا يمكن القفز عليها. "ليموتوا فلا ثورة بلا ضحايا" و"ليموتوا فلا نصر إلهي إلا بالتضحية" من أشهر الشعارات الأيديولوجية التي تتناسى التغييرات السياسية والثورات السلمية ومحدودة التجاوزات الأخلاقية.
في الأسبوع المقبل المزيد من الحديث عن أشكال التفكير الأيديولوجي والمنطق الذي يجمع تلك الأشكال.