الإشادة بازدياد عدد مؤسسات العمل الخيري التي تكفل الأسر المحتاجة والفقراء والمعوزين لها جانبان: جانب يدل على الخير في الناس وعلى إقبالهم على الإنفاق في سبيل الله، وجانب آخر هو أن عدد المحتاجين والمساكين في ازدياد!
وقل مثل هذا في الإشادة بازدياد الوعظ والوعاظ؛ فإن انتشارهم جدا وازديادهم بما يفوق الحصر يشير إلى أن الناس مقبلون على سماع الوعظ والإرشاد، لكنه في الجانب الآخر ربما يشير إلى ازدياد حالة من الفساد والنقص موجبة لهذه الكثرة الهائلة للوعظ والوعاظ!
هذا، مع أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كما أخبر ابن مسعود رضي الله عنه، كان يتخول الصحابة بالموعظة مخافة (السآمة) عليهم، هذا وهو النبي، وأولئك هم الصحابة، لا يلح عليهم ولا يزيد ولا يكثر، لئلا يصيبهم بالملل.
قال العلامة ابن رجب في كتابه (جامع العلوم والحكم): "فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له وقت معين يقص على أصحابه فيه غير خطبته الراتبة في الجمع والأعياد، وإنما كان يذكرهم أحيانا، أو عند حدوث أمر يحتاج إلى التذكير عنده، ثم إن الصحابة اجتمعوا على تعيين وقت له كما سبق عن ابن مسعود أنه كان يذكر أصحابه كل يوم خميس.
وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس قال: حدث الناس في كل جمعة مرة، فإن أبيت، فمرتين، فإن أكثرت فثلاثا، ولا تمل الناس".
هذا، ولم يرد في كتاب ولا سنة ولا خبر صحابي أنهم كانوا يجعلون الأفراح والأعراس مناسبات للوعظ والتذكير، ولكنهم كانوا "حكماء" يضعون الشيء في موضعه، وهكذا كان هديهم رضي الله عنهم.
إن الوعظ عمل مبرور، لأنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا اتبع فيه الوجه الصحيح من توجيه الناس وإرشادهم. فلقد تولى الله تعالى نفسه موعظة الناس، فوعظ بما يجريه تعالى من أحداث في هذا الكون، ووعظ بالقرآن الكريم والهدي، قال تعالى في شأن قرية عذب أهلها: {فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين}، وأمر سبحانه بالاتعاظ بما يجري للمجتمعات حين تنحرف عن منهج الحق والعدل والتوحيد فقال: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين* هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين}.
ووصف الله تعالى قرآنه الكريم نفسه بأنه موعظة فقال: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين}. وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعظ المنافقين الذين يتولون غير المؤمنين وينصرونهم عليهم فقال له: {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا}.
فالموعظة خير وهدى بلا شك، لكن متى؟ عندما تكون موعظة "حسنة"، قال سبحانه: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}.
في هذه الآية الكريمة، نجد الله تعالى اكتفى بأن يذكر الحكمة بلا أية صفة، فلم يصفها بالحسن ولا بالسوء، لماذا؟ لأن الحكمة خير كلها، وليس هناك حكمة سيئة، بل الحكمة في ذاتها هي خير، والحكمة هي وضع الشيء في مكانه الصحيح، والحكيم هو الذي يضع الشيء في مكانه الصحيح، فلا يتكلم إلا بعلم، يتكلم في مواطن الكلام، ويسكت في مواطن السكوت، ويفهم حاجات الناس الحقيقية، ويراعي الأولويات.
لكننا نجد أن الله تعالى يقيد الموعظة بأنها يجب أن تكون "حسنة" وإلا كانت إضافة الحسن هاهنا حشوا لا فائدة منه، فتقييد الموعظة هنا بأنها يجب أن تكون حسنة؛ يفهم منه أن هناك موعظة "ليست حسنة"، وعليه؛ فهناك وعظ حسن، ووعظ غير حسن.
وإذا كان الوعظ "الحسن" أمرا مطلوبا بلا شك، يحيي العقول والأرواح؛ فالوعظ غير الحسن ليس إلا معولا من معاول الهدم، وسببا من أسباب الفساد، لا سيما فساد العقول والأذهان، أو فساد القلوب والضمائر بحيث تحمل الكراهية للناس، وتسيء بهم الظنون.
ومما يسببه الوعظ غير الحسن من الفساد نشر الأكاذيب والتهاويل لاستجلاب قلوب العوام، وكان الوعاظ الكذبة من أسباب وضع الأحاديث، ذكر الإمام ابن قتيبة الدينوري يرحمه الله في كتابه الشهير (تأويل مختلف الحديث) أن من أسباب الوضع في الحديث هؤلاء القصاص (أي الواعظين)؛ فذكر الوجه الثاني من أسباب وضع الحديث فقال:
"القصاص على قديم الأيام، فإنهم يميلون وجوه العوام إليهم ويستدرون ما عندهم: بالمناكير، والغريب، والأكاذيب من الأحاديث. ومن شأن العوام، القعود عند القاص (أي الواعظ) ما كان حديثه عجيبا، خارجا عن فطر العقول، أو كان رقيقا يحزن القلوب، ويستغزر العيون.
فإذا ذكر الجنة، قال فيها الحوراء من مسك، أو زعفران، وعجيزتها ميل في ميل. ويبوئ الله تعالى وليه قصرا من لؤلؤة بيضاء، فيه سبعون ألف مقصورة، في كل مقصورة سبعون ألف قبة... في كل قبة سبعون ألف فراش على كل فراش سبعون ألف كذا، فلا يزال في سبعين ألف كذا، وسبعين ألفا؛ كأنه يرى أنه لا يجوز أن يكون العدد فوق السبعين ولا دونها.
ويقول: لأصغر من في الجنة منزلة عند الله، من يعطيه الله تعالى مثل الدنيا كذا وكذا ضعفا، وكلما كان من هذا أكثر، كان العجب أكثر، والقعود عنده أطول، والأيدي بالعطاء إليه أسرع.
والله تبارك وتعالى يخبرنا في كتابه، بما في جنته بما فيه مقنع عن أخبار القصاص، وسائر الخلق...". إلى آخر ما قال.
فوعظ كهذا ليس وعظا حسنا مهما كانت نية قائله وغرضه، إذا كان ينتصر في وعظه بالكذب والغرائب، ومن أمثال ذلك تلك القصة التي أخبر بها أحد المشايخ وانتشرت انتشار النار في الهشيم عن ذلك الشاب الذي لا يصلي، وأرادوا دفنه فاعترضهم ثعبان ضخم، وكلما بحثوا عن قبر آخر ليدفنوه فيه ظهر لهم ذلك الثعبان العظيم، فما استطاعوا إلا دفنه مع هذا الثعبان حتى سمعوا تفتت عظامه لما التف الثعبان عليه، فلما سألوا أمه قالت: كان شابا طيبا إلا أنه كان لا يصلي.
هذه قصة من تكاذيب الوعاظ سمعناها في صغرنا، ولعل القارئ الكريم يذكرها، وفي آي الكتاب الكريم والحديث الصحيح غنية عن مثل هذه التكاذيب وأشباهها مما يذكره بعض الواعظين، لا سيما أخبار الموتى وما يتعلق بحسن الخاتمة.