لا أنفك أهتبل أية فرصة تسنح؛ لأنفلت لعروس مصائف بلادنا، تلك الأميرة التي تتمطط على جبال السروات بغنج ودلال ودعة، وأستروح في مزرعة صديق أثير غال في القلب، وأستمتع بنسيم المدينة البارد يلفحني، ويتغلغل لشغاف الروح، مجترا ذكريات بعيدة في هذه العروس الوادعة والآمنة، وقد ولدت في الطائف، وعشت بها طفولتي ويفاعتي وجزءا من شبابي، مرددا: حقا، إن الطفولة عاصمة العمر.
في مساء الجمعة الفارط، وأنا مع 120 رياضيا من أبناء المدينة الذين رضعوا الحب والسلام وتآخوا فيها، أتينا من مختلف مناطق المملكة، جمعتنا يفاعة كرة القدم ذاتها وأخوّة ممتدة باقية من أكثر من ثلاثين عاما انصرمت، وقد مثلنا ناديي المدينة الشهيرين: "عكاظ" و"وجّ"، في تظاهرة رياضية للعام الخامس على التوالي، تحت لافتة قدامى لاعبي الطائف؛ وإذ بالدوريات الأمنية تجوب الشوارع في ذلك المساء البهي، وتقيم الحواجز الأمنية في تفتيش دقيق، بحثا عن الإرهابي يوسف الغامدي، وقد أحال مساءنا إلى نقمة ودعاء عليه، وغضب عارم اجتاح السكان، فهذه المدينة التي كان يؤمها ملوكنا منذ عهد المؤسس إلى بدايات عهد الفهد، يرحمهم الله جميعا، في أيام القيظ، لم تعرف إلا الحب والسكينة والورد تهبه لزائريها، فما الذي أتى بالدواعش إليها؟
رجال أمننا الأبطال لم يخيبوا ظن المجتمع بهم، ففي 24 ساعة، اقتنصوا ذلك الإرهابي الذي حاصروه، وأردوه قتيلا، يتضرج بدمه الفاسد مختلطا ونيته السوداء، وكنت أقول لبعض رفقتي إن "داعش" بفكره الخارجي المتطرف، وقد وصل إلى هذه المدينة الساكنة، فحتما أنه متسرطن في باقي مدن المملكة، وإننا في حاجة إلى جهود أكبر لمواجهته، والدولة تحتاج إلينا جميعا اليوم لاستئصاله.
علاقتي بملف الإرهاب قديمة، وها أنا أكرر رفع عقيرتي بشكل صريح بأننا جميعا اليوم مسؤولون عن مكافحة هذا السرطان، وليست الدولة فقط بأجهزتها الأمنية، وأننا كنخب نتحمل للأسف جزءا من مسؤولية ما يحدث، فعندما يقوم "الليبراليون" بتحميل المناهج الدراسية أو الفكر الديني السبب، ويرد عليهم هؤلاء بأن التغريب الذي يمارسونه أدى إلى لجوء هؤلاء الشباب إلى التطرف، ويأتي الشيعة ليتهموا بدروهم أصول المدرسة الدينية، فيما يرد فصيل سلفيٌّ عليهم بأن ولاءهم للخارج، وبأنهم طابور خامس، ونتراشق جميعا هذه الاتهامات على مدى السنوات الماضية، في جدل بيزنطي لمّا يزل قائما، دون أي إحساس بمسؤولية مواجهة هذا الفكر الخطير إلا برمي التهم، ومشهد الصراع هذا قائم مذ 11 سبتمبر الشهيرة، فيما الواجب اليوم إيقاف هذا التراشق الذي لم يفد أحدا، فالوطن نحن أفراده، وهو مسؤوليتنا، ومن يسكت اليوم فسيكون في الغد هو الضحية، إن كان عالما شرعيا أو داعية أو معمما أو مثقفا ليبراليا، أو أي فرد كان.
يجب أن ننحي كل خلافتنا جانبا، وأن يقوم الإعلام بدوره الخلاق بجمع الكلمة لا تفريقها، وأن نؤمن أولا بضرورة تكاتفنا دون تخوين بعضنا بعضا، وأن نتحلى بروح الطبيب الشفيق الذي يبحث العلاج لهذا السرطان في أي عضو كان، فالدواعش استطاعوا اختراق شرائح شبابية بما لا نتصور، ورأيت وحاورت نماذج منهم، وكثير منهم متخف لا ندري عنه، ودونكم ذلك الإرهابي الذي فجر في الكويت، عندما فجع عائلته وأهله وهم الذين يظنون بأنه ذاهب للاعتكاف.
أمر آخر، يتمثل في التفكير بجد حيال موضوع "الإنترنت"، إذ إن التجنيد الحقيقي للدواعش يأتي عبره، وسمعت دعوات من بعض الزملاء لإيقاف "تويتر"، وبرأيي أن مئة وسيلة تواصل حديثة ستنبجس، ويمتطيها دعاة التطرف من الخارج والداخل ليصلوا إلى شبابنا، وهنا الإشكال الصعب. الشباب الصغار الذين حاورت، كلهم يقول إن "الإنترنت" هو وسيلة التخاطب والتواصل مع منظري داعش ودعاته، فلا بد من وسيلة ما لخنق وإيقاف المدّ عبر هذه التقنية، ولو بقرار على مستوى دولي.
يقينا أن حربنا مع الإرهاب طويلة، فمن المهم أن نزيد الدعم للأجهزة الأمنية المتصدية للإرهابيين. زيادة الميزانية المخصصة للأمن أمر ملحّ اليوم، وكذلك التوسع في زيادة عدد الأفراد وتدريبهم على أعلى مستوى، وتزويدهم بأحدث الأجهزة والتقنيات التي وصلت إليها الدول المتقدمة.
جهاز الأمن لدينا قام ولا يزال بحفظ الوطن داخليا من الفئة الضالة والخوارج، واليوم نحن في أتون حرب في اليمن، والتاريخ يحدثنا بأنه في مناخات الحرب يكثر الجواسيس والخونة والعملاء ومرتزقة الحروب، ورأينا كيف امتطت الدول التي لا تريد لبلادنا الاستقرار بعضا من أبنائنا السذج ليقوموا بالتفجير لإحداث الفتنة الطائفية، وثمّة من قدم لهم الدعم اللوجستي، وبالتأكيد أن داعش ومن خلفه من الدول لن يهدأوا وسيكررون فعلتهم، لذلك من المهم جدا فتح الميزانيات، وإعطاء الأولوية لتدعيم أجهزة الأمن إلى أقصى حدّ، فالأمن خط أحمر، وإن تخلخل لا سمح الله، فلن نهنأ بأي رغد من العيش نتوافر عليه اليوم، وسنفقد كثيرا من مقدراتنا والبنى التحتية، لا سمح الله، ونظرة قريبة للدول حولنا تشي بكل هذا.
كم أنا حزين على مدينتي الساحرة الطائف، التي هي ملاذ عشاق الطبيعة والجو الخلاب، والتي تهب الورد الطائفي الشهير والسلام لتلك القلوب المحبة التي تقصدها للأنس والاسترواح؛ أن يحمل من أبنائها فكرا متطرفا، لا يعرفه أهل المدينة طيلة تاريخهم.
وأنا أغادر مدينتي الأحب، ووقتما انحدرت السيارة من أعلى جبل "كرا"، زفرت آهة مصدور، حملتها ذكرياتي الغالية، وهمهمت: ستبقى الطائف موطن الحب والورد والسلام مهما استطال فكر التطرف.