شهدت الأيام القليلة الماضية حملات وردات فعل ونقاشات في أوساط مؤيدي النظام السوري، وفي وسائل إعلامهم وعبر مواقع التواصل؛ منددة مستنكرة لإزالة صورة حافظ الأسد عن عملة الألف ليرة الجديدة التي أطلقها النظام قبل أيام، وحمل بعضها رفضا شديدا لهذه العملة وتخوينا للقائمين عليها.
وقبل أن نتأمل في دلالات هذا الموضوع ومعانيه، لا بأس من سرد الجانب العملي الحقيقي من حكاية الألف ليرة.
صدرت ورقة الألف ليرة لأول مرة عام 1997 لتكون أكبر فئة نقدية في العملة السورية، ولأربعة عشرعاما ظلت تساوي 20 دولارا أميركيا، قبل أن تبدأ بخسارة قيمتها مع انهيار الاقتصاد السوري ابتداء من عام 2012، لتصل قيمتها اليوم إلى3.3 دولارات أميركية.
العملة الجديدة كانت مقررة منذ عام 2008 وتصميمها متناسب مع تصاميم فئات أخرى من العملة السورية صدرت تباعا "كان أولها الـ50 ليرة عام 2009 وآخرها فئة الـ500 الجديدة 2013" إذًا ليس لغياب صورة حافظ الأسد عن العملة أي معنى أو سبب متعلق بالثورة السورية، ولا بأي من تداعياتها تأثيراتها على النظام وعلى الدولة.
والمعلومة التي لا يعرفها الجميع أن الحكومة في ذلك الوقت كانت قد أقرت فئات وأشكال العملة السورية، وارتأت أن صورة "رئيس الجمهورية" هي رمز سيادي ويجب وضعه على أكبر فئة نقدية، ولكن القرار وقتها كان لإصدار فئة نقدية أكبر "وتم النقاش وقتها بين خيارين هما 2000 ليرة أو 2500 ليرة" وحذف صورة الأسد الأب لا يخرج عن هذا السياق، فلا الأب هو الرئيس، ولا الـ1000 هي أكبر فئة نقدية. والخطوة التالية هي صورة الأسد "الابن" على عملة جديدة من فئة 2000 ليرة.
فافرحوا أيها المؤيدون وغنوا وارقصوا، واشكروا الله الذي سلبكم رئيسا ميتا على 1000 ليرة ميتة، وسيعوضكم رئيسا جديدا على 2000 ليرة جديدة.
وعلى الرغم من هذه الوقائع التي تلغي كل أسباب الحملات والتفسيرات والتأويلات لهذه الخطوة، لكن إصدار العملة بهذا الشكل يمثل فرصة لنقاش جانب مظلم من جوانب البنية النفسية للنظام السوري، ولرأسه، مما له أهمية في فهم وتفسير كثير مما يجري في سورية اليوم.
الكل يعرف أن بشار الأسد لم يكن مطروحا يوما للعب أي دور سياسي أو المشاركة في أي نوع من أنواع إدارة الحكم، وكان لسنوات طويلة بعيدا عن أجواء الدولة، و"فرزه" أبوه للعب دور آخر وليمثل الوجه العلمي الغربي للعائلة، فأرسله لدراسة طب العيون في بريطانيا، فيما كان يعدّ أخاه الأكبر "باسل" لتولي الحكم، يروي القريبون من العائلة ومن تلك المرحلة، أن بشارا كان شخصية انطوائية منكسرة أمام شخصيتين طاغيتين: حافظ الأب وباسل الأخ.
وتسلسل الأحداث، من موت "باسل" بشكل مفاجئ، وقرار حافظ بتحضير "بشار" للعب هذا الدور، ثم وفاة الأب بشكل مبكر وقبل اكتمال عملية التحضير، وضع بشارا وهو في عمر صغير في موضع دقيق يشكل حالة نموذجية لأي طالب في علم النفس.
ففي الـ34 وجد نفسه وحيدا في مواجهة العالم يريد أن يقنع نفسه ويقنع العالم بجملة بسيطة: أنا نفسي، لست فقط ابن حافظ الأسد، لست فقط بديل "الشهيد" باسل.
وعبر 15 عاما ما تزال المحاولات مستمرة لإقناع نفسه بهذه الجملة، تنوعت وتعددت المحاولات:
أنا رجل التحديث والتطوير، أنا رجل الانفتاح الاقتصادي، أنا الرجل العصري المنفتح المتنور، أنا الرجل القريب من الشعب.
كل ذلك لم ينفع، ولم يقنع أحدا، ولا حتى هو شخصيا، وعملية قتل الأب الضرورية نفسيا لأي رجل يريد أن يفعل شيئا في حياته اصطدمت في حالته بصعوبات بالغة: أب عصيّ على القتل، هناك أبوان وليس واحدا، الأب حاضر في كل ما يحيط به، الأصدقاء يذكرونه به في كل لحظة، الأعداء يشتمونه لأنه ابن ذاك الأب. هل هناك ما هو أسوأ؟ أن تفعل شرا كي يشتمك الناس، لكنهم يشتمون أباك.
عام 2011 كان ربما الفرصة النفسية الذهبية لبشار، وربما قال في نفسه: الآن أستطيع أن أكون، أصبح لي دبابتي، ولم أعد ابن ذلك الرجل الذي جاء على دبابة. أصبح لي قتلاي ولم أعد ابن ذلك الرجل الذي يصرخ دم قتلاه في أذني، أصبحت أنا، وصار الناس يشتمونني لجرائمي لا لجرائم غيري، أخيرا أنا موجود.
والـ1000 ليرة ليست سوى واحدة أخرى من التفاصيل الصغيرة الباقية التي على الأب أن يغادرها، وقريبا سيكون الابن على واحدة أكبر، تتناسب قيمتها مع قيمة ما يفعل.