في وطن مثقل بالعطاء ومفعم بالسخاء لتحقيق رفاهية المواطن، لا بد أن نبدأ في تنظيم أساليب الدعم وتوجيهها للمستحقين فقط، والقضاء على الاحتكار والتهريب، وفك ارتباط الأسعار، ونشر ثقافة ترشيد الاستهلاك.
وفي وطن صنفته الأمم المتحدة بأنه من أكثر دول العالم سخاء في دعم المنتجات والخدمات والطاقة والمياه، لتصل كلفته السنوية إلى 450 مليار ريال، منها 190 مليارا لدعم إنتاج الطاقة ومحطات التحلية، وهو ما يقترب من 30% من الميزانية، و12% من إجمالي الناتج المحلي، ليستفيد منه الوافدون المقيمون بمقدار 110 مليارات ريال سنويا.
وفي وطن أصبح استهلاك الفرد الواحد من الطاقة الأعلى في العالم بمقدار 45 برميلا مكافئا من النفط سنويا، ليعادل 200% من استهلاك الفرد في بريطانيا و160% من استهلاك نظيره في أميركا و130% لمثيله في أستراليا. وفي وطن ينتج 12% من الطلب العالمي على النفط، ويستهلك 25% من هذه الكمية محليا، ليُصبح النمو السنوي لاستهلاك الطاقة في المملكة الأعلى في العالم بمعدل 7% سنويا، بينما لا يزيد هذا المعدل عن 3% في الدول الصناعية الكبرى، ما ينذر بارتفاع استهلاك المملكة للنفط إلى 50% من إنتاجنا بعد 15 عاما فقط.
وفي وطن تصل قيمة دعم وقود النقل مثل البنزين والديزل إلى 162 مليار ريال سنويا، حيث استهلكت المملكة في العام الماضي حوالي 26 مليار لتر من البنزين و28 مليار لتر من الديزل، بسعر محلي يقل عن سعر تصدير هذه المنتجات بحوالي 3 ريالات لليتر الواحد، لتصبح التكلفة السنوية لدعم البنزين 78 مليار ريال ودعم الديزل 84 مليار ريال.
وفي وطن تحصل فيه شركات الكهرباء ومحطات التحلية على الأسعار التفضيلية للوقود مقارنة بالأسعار العالمية، لتزيد تكلفة الدعم المحلي للوقود بحدود 26 مليار ريال سنويا، وفي وطن فاق إنتاجه من الغاز الطبيعي في العام الماضي حوالي 3850 تريليون وحدة حرارية، استهلكت منها محطات توليد الكهرباء 1800 تريليون وحدة، ومحطات التحلية 1600 تريليون وحدة، والصناعات البتروكيماوية حوالي 560 تريليون وحدة؛ لتستخدم كقيم في مشاريعها، بسعر 2.8 ريال لكل مليون وحدة حرارية من غاز الإيثان، بينما يزيد سعره في العالم عن حوالي 48 ريالا، لتفوق تكلفة الدعم المحلي بحوالي 95 مليار ريال سنويا.
وفي وطن أكدت مؤسساته الإحصائية في تقاريرها الأخيرة أن قطاع المباني السعودي يستهلك 80% من إجمالي الطاقة الكهربائية، وأن استهلاك أجهزة التكييف منها تساوي 70%، وبنسبة نمو سنوي تصل إلى 12%، كما أن نحو 70% من المباني غير معزولة حرارياً.
وفي وطن أصبح دعم الديزل فيه يشجع على تهريبه، نتيجة انخفاض أسعاره بمعدلات تصل إلى 12 ضعفا عن أسعارها في الدول المجاورة، حيث لا يزيد سعر الليتر الواحد في المملكة عن 25 هللة، بينما يرتفع إلى 4 ريالات في الأردن واليمن، و3 ريالات في الإمارات، و2.5 ريال في العراق، و1.8 ريال في الكويت، و3.2 ريالات في الهند وباكستان، و6 ريالات في تركيا.
في هذا الوطن، من واجبنا الاطلاع على نتائج دراسات تخفيض الدعم في دول العالم، والتي من أهمها دراسة صندوق النقد الدولي، وتقارير الوكالات الائتمانية الدولية، التي أجمعت على نجاح خطط إصلاح الدعم في 30 دولة، وحققت نتائجها الباهرة في تخفيض العجز المالي ورفع كفاءة الأداء الحكومي وزيادة نمو القطاع الخاص، إضافة إلى ارتفاع وتيرة تدفق الاستثمارات في أسواق هذه الدول.
وجاءت كل من البرازيل وتركيا والفلبين وجنوب أفريقيا على رأس قائمة الدول الناجحة في إصلاح الدعم. فدولة البرازيل مثلا، التي كانت تعاني في 1981 من ارتفاع مستوى التضخم إلى 272%، وضعف أداء المالية الذي أدى إلى تفاقم الدين العام من 24% إلى 40% في 6 أعوام، حزمت أمرها في 1989 لإصلاح الدعم في أسواقها من خلال خصخصة شركة النفط الوحيدة لديها "بتروبراس" المملوكة للدولة بالكامل. وأعقب ذلك تحرير أسعار المنتجات البترولية والغاز السائل في 1989 والديزل في 2001.
وعلماً بأن إعادة هيكلة شركة "بتروبراس" البرازيلية وإلغاء احتكارها للمنتجات البترولية أدى إلى زيادة معدلات التضخم على المدى القصير بنسبة 1%، إلا أن هذه الخطة الجريئة حققت نجاحا كبيرا على المدى الطويل نتيجة تطبيق نظام تعويض الأسر منخفضة الدخل، التي تأثرت بارتفاع الأسعار، وأدت إلى تسارع خطة الإصلاح لتحقيق الأهداف المرجوة.
أما تركيا، التي عانت منذ السبعينات، وعلى مدى 32 عاما، من مطالبات صندوق النقد الدولي، لكونها إحدى أكثر الدول مديونية للصندوق بين 64 دولة حول العالم، وبقروض فاقت 50 مليار دولار، فلقد أدى إصلاح الدعم في أسواقها مطلع عام 2002 إلى تعافيها الاقتصادي المتسارع، كما أسهم تقليص الدعم في نمو ناتجها الوطني وتحسن أوضاع المالية العامة، لتتسارع خطوات الحكومة التركية نحو تسديد غالبية ديونها للصندوق، وأصبحت بعد 11 عاما خالية من الديون السيادية. واليوم يسجل الاقتصاد التركي أداء قويا متميزا نتيجة زيادة أنشطة قطاعه الخاص بعد إصلاح الدعم، لتمضي تركيا في خططها نحو زيادة الناتج المحلي الإجمالي إلى 2 تريليون دولار بحلول 2023، وزيادة حجم صادراتها السنوية إلى 500 مليار دولار بعد مضاعفة عدد شركاتها التصديرية إلى 100 ألف شركة.
في هذا الوطن نحن بأمس الحاجة لعاصفة من الحزم لإصلاح الدعم في أسواقنا.