من عادتي في رمضان ألا أتابع التلفزيون في فترة ما بين الإفطار وصلاتي العشاء والتراويح، وقد صادفت بداية هذا الشهر الكريم أن كنت مسافرا فلم أشاهد كثيرا من البرامج والمسلسلات التي يجري إعدادها والترتيب لها طيلة عام كامل ثم يتم عرضها مرة واحدة ودفعة واحدة في شهر القرآن والنور وبتكرار في غير قناة.
المهم أنني منذ أول يوم في رمضان وبعد أذان المغرب فوجئت بالفنان السعودي ناصر القصبي يشعل مواقع التواصل الاجتماعي ويتحول إلى نجم "تويتر" وبطل (الهاشتاقات): #ناصر_القصبي_يستهزىء_بالدين_وأهله، #ناصر_القصبي_يستهزىء_برجال_الدين، وغيرها كثير لا تزال حتى هذه اللحظة تضج بآلاف التغريدات التي من المفارقة أن جزءا منها لم يتسن لمطلقيها مشاهدة الحلقة أو لم يشاهدوها كاملة على الأقل، لكن هذا ملمح سعودي بامتياز، حيث يهب الكثيرون من المريدين خلف شيخهم أو إمامهم أو أستاذهم ينصرون آراءه وأقواله دون تفكير أو تمحيص أو حتى دون اطلاع على الحدث في أضيق الحدود.
قلت يجب أن أشاهد الحلقة الأولى من مسلسل أو برنامج "سيلفي" فورا لأرى أي جرم ارتكبه هذا الفنان المخضرم فجعله مادة للحش والتهديد واللعن والتفسيق والتكفير، صحيح أنني لم أفلح في العثور ساعتها على أي فيديو للحلقة سواء في موقع يوتيوب أو في موقع القناة نفسها التي تبث المسلسل.. فذهبت إلى محرك البحث شيخنا (قوقل) وكتبت هذه العبارة: "حكم الاستهزاء بالدين وأهله" فانهمرت نتائج البحث بآلاف الروابط التي فتحت أولها فجاءني موقع "الإسلام سؤال وجواب" وردت فيه تفاصيل كثيرة يهمني أن أنقل منها المقاطع التالية:
"قال الإمام ابن حزم الظاهري: "صح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى، أو بملك من الملائكة، أو بنبي من الأنبياء عليهم السلام، أو بآية من القرآن، أو بفريضة من فرائض الدين بعد بلوغ الحجة إليه، فهو كافر". انتهى من "الفصل في الملل والأهواء والنحل" (3/142).
الاستهزاء بالدين يشمل كل قول أو فعل، يدل على الطعن في الدين، والتنقص منه، والاستخفاف به. قال أبو حامد الغزالي: "ومعنى السخرية: الاستهانة، والتحقير، والتنبيه على العيوب والنقائض، على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في القول والفعل، وقد يكون بالإشارة والإيماء". انتهى من "إحياء علوم الدين" (3/131).
فكل قول أو فعل يدل -بحسب ما يتعارف عليه الناس ويفهمونه من لغتهم- على الانتقاص أو الاستخفاف بالله ورسوله، أو القرآن والسنة، أو شيء من شعائر هذا الدين، فهو من الاستهزاء المخرج من الملة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "الصارم المسلول" (541): "وإذا لم يكن للسب حد معروف في اللغة ولا في الشرع: فالمرجع فيه إلى عرف الناس؛ فما كان في العرف سبا للنبي فهو الذي يجب أن ننزل عليه كلام الصحابة والعلماء، وما لا فلا"..". (انتهى).
طبقا لهذا الكلام، وإن كان السطران الأخيران من كلام الشيخ الراحل ابن تيمية تثير اللبس عندما يجعل (عرف) الناس هو المرجع في الحكم على السب والانتقاص والاستهزاء، وربما وفق هذا العرف قد يتم تكفير هذا أو قتل ذلك.. المهم أنني انتظرت حتى نزلت حلقة "دنفسة" التي أثارت الجدل ورمت بالقصبي في معتقل الاستهزاء بالدين والكفر بالله كما هو الشيخ أو الإمام الذي خطب في منبر الجمعة وقال بذلك قبل أن يتراجع عنه، وغيره من الأئمة الذين انطلقوا في أول جمعة في رمضان، أي في اليوم التالي للحلقة، داعين الله بالويل والثبور على المستهزئين بالدين ورجال الدين.. إلخ.
عندما شاهدت الحلقة التي دار عليها الجدل في اليوم الأول من الشهر الكريم، وجدتها لقطات تلفزيونية سريعة وغير محكمة فنيا تناسب مستوى الدراما السعودية التي تعوض الإثارة الثقافية وطرح موضوعات وقضايا مثيرة للجدل بالنقص الفني، ولم أر كإنسان مسلم وفق ما درسته وتعلمته وحفظته من القرآن الكريم أي استهزاء بالدين أو أهل هذا الدين العظيم. مشكلة مجتمعنا أنهم من أولئك الذين يعرفون الحق بالرجال ولا يعرفون الرجال بالحق كما قال عنهم علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فبطل "سيلفي" كان قد صدرت في حق مسلسله السابق "طاش ما طاش" فتوى بتحريمه ونال من الدعاء والطعن في عرضه أضعاف ما ناله اليوم، وسبق للدكتورة بدرية البشر الكاتبة والروائية والإعلامية القديرة وهي زوجة الفنان ناصر القصبي أن أصدرت، قبل سنوات، كتابا عنوانه "معارك طاش ما طاش قراءة في ذهنية التحريم في المجتمع السعودي" أكدت فيه أن فتوى تحريم المسلسل هزمت ولم تجد صدى في السعودية.
أعود إلى "سيلفي" وأقول إنه إذا كان المقصود بالاستهزاء بالدين وأهله هي لقطة تمثيل القصبي لكسر آلة العود على المسرح كما يفعل بعض الدعاة أو من يطلقون على أنفسهم ذلك اللقب، فإنني لم أقرأ ولم أسمع أن الرسول عليه الصلاة والسلام أو الصحابة -رضوان الله عليهم- قد كسروا أو حطموا دفا أو طبلا أو معزفا أو زمارة كما يفعل بعض دعاة هذا الزمن في مناظر لا تليق بالحضارة الإنسانية!
الجميل أن ثمة وعيا بأن كاتب العمل وبطله لم يستنقصا من الدين، بل كانت هناك سخرية من أولئك الذين يتاجرون بالدين ويدعون أنهم رجاله وورثته وهم المعبرون عنه فقط مع أن الإمام مالك -رحمه الله- كان يقول "كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر" وهو النبي عليه الصلاة والسلام، لذا لا بد، اليوم، من مساءلة و(استجواب) واستنطاق (الثقافة) ذاتها التي تشكل هذا المجتمع، من (داخلها) لا من خارجها كما هو حاصل، وإثبات أنها لا تمتلك الحقيقة كلها وأن الطرق تتعدد وتتنوع وإن كانت الغاية واحدة!