ما بين الرؤية النقدية لأي عمل فني، والرؤية التقييمة للجان التحكيم التي تتولى الحكم على هذا العمل، ثمة مسافات لا أحد يستطيع التكهن بامتدادها أو اتساعها، لأنها تتمطى لتسع اختلاف الأذواق والتذوق والرؤى، وهي التي غالبا ما تطغى على تقييم العمل الفني، على الرغم من حديث كثيرين عن ضوابط النقد المتخصص المتعلقة بالموضوعية والشمولية والمرونة وتسلح الناقد بقواعد معلوماتية جيدة، وإحاطته بتفاصيل الموضوع الذي يتناول نقده.
ما يثير الحديث عن هذه المسافة هو ما آلت إليه جوائز مهرجان ليالي هجر المسرحية للشباب التي اختتمت أول من أمس، حيث منحت جائزة المهرجان لأفضل مخرج لماجد السيهاتي مخرج عرض "بدل فاقد"، في وقت طالت فيه سهام النقد السيهاتي نفسه في الجلسة النقدية التي تلت عرض العمل مباشرة.
في تلك الجلسة قال علي الغوينم "الإضاءة خانت طاقم العمل في كثير من المشاهد"، كما انتقد الهروب المأساوي الذي لجأ إليه المخرج لإنهاء المشاهد.
وفيها أيضا قال "لم يوظف ديكور المسرحية لخدمة النص والمشاهد، ووضع المخرج الجمهور في معزل عن الديكور الممتد نحو جمهور الصالة".
لكن نتيجة لجنة التحكيم ذهبت إلى نحو مغاير لرؤية الغوينم، فاعتبرت السيهاتي الأفضل، على الرغم من أنه هو نفسه كان قد قال في الجلسة النقدية "إذا أتيحت لي الفرصة للعرض مرة أخرى فسأتجاوز كثيرا من الأخطاء".
وعلى الرغم من أن لجنة التحكيم حرصت على عدم حضور الجلسات النقدية حتى لا تتأثر بما يرد فيها من ملاحظات ورؤى، إلا أن فوز السيهاتي بالجائزة يفتح المجال لإيصال رسالة إلى كل المشتغلين بالأدب والفنون مفادها بأن رأيا ما لا يعني -على الرغم من أهميته أحيانا- أن يتسرب الإحباط واليأس لنفس الموهوب المؤمن بموهبته، الواثق من قدرته على اكتساب الخبرة والمعرفة يوما إثر آخر.
ثمة نقد قاس يمارس أحيانا على الموهوب المبتدأ، دون مراعاة ضرورة "القسوة برأفة"، وهي قسوة ترمي لتصويب الاعوجاج، وتفادي الأخطاء، وتبيان مواقع الضعف والقوة، وليس "القسوة للقسوة" وهي التي تعيق وتحبط، وتضع الموهبة خارج حسابات التطور المأمول منها، ولذا فإن الموهوب الحقيقي هو ذاك الذي يستمع إلى كل الآراء، فلا يملؤه إيجابيها زهوا، ولا يحبطه سلبيها حد التوقف وإهدار موهبته إن كان مؤمنا بحق أنه يتمتع بالموهبة.