في الأسبوع الماضي استعرضت بعض علامات منطق الأيديولوجيا التي تحكم تفكيرها ويمكن ملاحظتها كعلامات مشتركة في خطابات أيديولوجية مختلفة ومتنوعة. تحدثت عن حجة اللجوء للشفقة وأن الخطابات الأيديولوجية خطابات عاطفية تلعب على انفعالات الجماهير. كذلك من منطق الأيديولوجيا وكعلامة على الانغلاق أن ترفض ما لا تعرف أو ما يبدو معقدا وعصيا على الفهم المباشر. الخطاب الأيديولوجي كذلك خطاب عنيف يتوجه للشخص بدلا من أفكاره. ولإسقاط خصومه -شعاراتيا- فإنه يحاكمهم مثاليا ولا يقبل أفكارهم حين لا يمكن تحقيقها بشكل كامل. وأخيرا تحدث المقال السابق عن استغلال الخطابات الأيديولوجية لظروف الناس التي تدفعهم للتغيير حتى ولو كان للأسوأ. هنا أستكمل استعراض تلك العلامات كما وردت في كتاب محمد سبيلا "الأيديولوجيا.. نحو نظرة تكاملية".
6- حجج الجمهور:
هذه الحجة تعني أن ينطلق الأيدلوجي من أكثر المؤثرات على الجماهير التي تجلب له التفاعل والهتافات والتصفيق الحار، كأن يعلن لهم أن كل ما يفعله هو من أجلهم سيضحي بالغالي والنفيس في سبيل تحقيق رغباتهم، وكأن يشيد بعظمة الشعب وذكائه وبطولته، وتعلم تماما كم استغل الأيدلوجيون القوميون الجماهير "العربية" في تمرير سياساتهم وأفكارهم التي لم يكن كثير منها محققا لهذه الشعارات. فقد كان الشعب هو الحجة التي تبرر كل تصرف، فالحرب تشن باسم الشعب والثورة باسمه والقضاء على المعارضة أيضا باسمه ورفع الأسعار كان من أجل الشعب! والشعب يتلقى كل هذه الضربات، التي هي من أجله، ويعيش أحلامه (كوابيسه) الموعودة.
الواقع يقول إنه لم يقمع "العرب" ويذلّهم ويسلب حرياتهم أحد أكثر من الأنظمة التي رفعت شعارات العروبة، ما يمكن ملاحظته بسهولة أن حجة الجمهور تستخدم لذات الشيء ونقيضه في ذات الوقت. دعم الثورة وقمعها يتم باسم الشعب في ذات الوقت. هذه الحالة يفترض أن تدفع الناس للبحث في ما وراء حجة الجماهير ولكن الخطاب الأيديولوجي يمنع ذلك باعتبار أن الأمور "واضحة" وأن الصراع دائما بين "المخلصين" و"الخونة"، وأن الأسئلة الشكية التي تصل للمناطق الحساسة ليست إلا خدمة للعدو وخيانة للجماعة.
7- حجج الالتجاء إلى رجل القش:
وتعني هذه الحجة التركيز على الجانب الأضعف من نظرية ما وتضخيمه والوصول من خلال هذا التضخيم إلى رفض هذه النظرية بكاملها كرفض النظرية الداروينية بناء على احتقارها للإنسان لأنها تنسبه إلى القرد مع إغفال الجوانب الأخرى للنظرية وعدم مناقشتها من خلال منهجيتها وعلميتها أو بمقارنتها بغيرها من النظريات البيولوجية.
الغرض الأساس خلف هذه الاستراتيجية هو صرف المستمع أو القارئ عن هذه النظرية أو الرأي من خلال إثارة روح التقزز تجاهه. هذه الحجة باختصار تقوم على إغلاق نوافذ الاتصال مع الآخر والغريب والمختلف بدلا من فتحها. وهذا النوع من البرهنة هو ارتكاز على الجزء دون الكل في الاستدلال، وهذا مما يختزل الأفكار ويغيب الحقيقة. وهذه الحجة قادرة على تشويه أي فكرة أو نظرية وذلك بتركيزها على أحد جوانبها الأكثر غرابة أو إثارة للجماهير. هذا السلوك مدفوع بحماسة الرغبة في إسقاط المخالف أكثر من التواصل معه.
حجة رجل القش كذلك تعني البحث عن أضعف التأويلات المحتملة للنظرية والابتعاد عن تأويلاتها أو تعبيراتها القوية. مثلا في الجدل مع النظرية الإسلامية قد يتجه الأيديولوجي غير الإسلامي للتعبيرات أو الصياغات الأضعف للنظرية الإسلامية، بدلا من الحوار مع صياغاتها الأكثر دقة وقيمة. في صراع التيارات وكتعبير عن هذا المنطق يخلق كل تيار شخصيات هزيلة لتعبّر عن التيار الآخر وتسيء له. تجد مثلا أن خصوم الليبرالية السعودية يعيّنون شخصيات لم تدّع يوما أنها ليبرالية فقط من أجل إظهار التيار الليبرالي بمظهر ضعيف وطارد.
8- حجج الالتجاء إلى شخص الثقة أو "المرجع":
وهذه الحجة تعني أن أقوال المؤسسين والرموز بمثابة المسلمات والأدلة والبراهين التي لا تنقض كما تفعل الأيديولوجيا الماركسية بأقوال ماركس، والأيديولوجيا الناصرية بأقوال عبد الناصر، والأيديولوجيا السلفية بأقوال السلف.
وهذا ما يفسر حرب النصوص والأقوال، فعند النقاش بين أيديولوجيين مختلفي المنظومة، تجد أن النقاش بينهم قائم على قال فلان وقال فلان ما ردك على قول فلان؟ وهذا لا يعني إلغاء المرجعية العلمية ولكن نقصد أن لا يصل بها الحد إلى تعطيل البحث وتصبح عائقا معرفيا في العلم ذاته فهي تقدم أجوبة جاهزة في كل شؤون الحياة، وإن لم يتم التشكيك في كمالها ومحاولة تجاوزها تعطلت كل القيم العقلية والتنموية في الحياة، ومما يجعل هذا الأمر شديد التأثير أن الدعاة الأيديولوجيين لا يتوقفون عند حدود اختصاصهم بل نجد أنهم يتدخلون في كل شؤون الحياة وينظرون فيها.
صراع الأقوال يعبّر عن منطق إيماني لا عقلي. في المنطق العقلي لا قيمة يمكن أن تضيفها شخصية القائل لما يقول. مضمون الكلام هو مقياس الاحتجاج ومرجعه. في المقابل فإن المنطق الإيماني التسليمي يدمج القيمة المعرفية بقيمة الرمز غالبا لحسم الاختلاف. الخطابات الأيديولوجية لا تحتمل الخلافات الداخلية وإن كانت تتغذى على الصراع مع الاختلافات الخارجية.
في المقالة المقبلة المزيد عن منطق الأيديولوجيا.