في كل مرة يحدث فيها تفجير، تقدم عليه عناصر الإرهاب من داعش وأخواتها، ينبري الكتاب للقراءة والتحليل. يبحثون عن فك الطلاسم، تارة بتحميل ثقافة المجتمع تبعاته، وتارة أخرى، تجعل الأوضاع الاجتماعية، وتفشي البطالة والأمية أسبابا لعمليات التفجير والتكفير.

ليس الهدف من هذه المقالة، التقليل من أهمية الثقافة، أو مناهج التعليم في تشكيل العقول، ولا الحد من أثر العوامل الاجتماعية، والبطالة في تفشي ظواهر الإحباط الناتج عن الفشل في حيازة الاستحقاقات الأساسية للبشر. لقد أشعلت حادثة انتحار البوعزيزي الثورة التونسية، وقد أثبتت مسيرة التاريخ الإنساني أن أكثر الثورات عنفا هي ثورات الفقراء.

لكننا هنا بصدد أمر آخر، هو الإرهاب الذي تفشى في العالم، وغدا وطننا العربي، مركز جاذبيته. فهذا الإرهاب، بتشكله الحالي، لم يعد مجرد سيارات مفخخة أو أحزمة ناسفة. لقد أمست له جيوش ومؤسسات، ومناطق يحتلها، ويدير فيها شؤون البشر والحجر. وقد تسببت أفعاله في انهيار كيانات وطنية. ولم يعد سرا أنه مدعوم من قوى دولية وإقليمية. 

يعمل الإرهاب في مناخات وظروف مختلفة، بما يجعل أسباب تغوله معقدة ومركبة، ومن الصعب إحالتها إلى سبب واحد. ففي تونس على سبيل المثال، ساد في السابق، ولما يزيد عن نصف قرن، نظام علماني، بدأ مع استقلال تونس، واستمر حتى اندلاع ما عرف بالربيع العربي في أواخر عام 2010. وتونس هي البلد الوحيد الذي نجحت فيه عملية الانتقال السياسي، بشكل سلمي نحو النظام الديموقراطي، ومع ذلك يعد شبابه الأكثر انخراطا في أنشطة الإرهاب بالمنطقة!

فالمتطرفون التونسيون يقاتلون الآن في سورية وليبيا والعراق، ويهددون أمن واستقرار تونس. وهذه البلاد ليست الأكثر فقرا بين البلدان الأفريقية، وبرامجها التربوية والتعليمية والإعلامية لم تشجع في أي من الأوقات أفكار التطرف، وشعبها لم يكن متطرفا في كفاحه ضد الاستعمار الفرنسي. لكن ذلك لم يحل دون انخراط شريحة كبيرة من شبابها في أعمال التطرف والإرهاب.

اختلاف البيئة الاجتماعية يصدق أيضا، حين نقارب سورية والعراق وليبيا التي عاشت في ظل أنظمة ثورية، قرابة لما يزيد على العقود الخمسة، بالنسبة لسورية والعراق، وأربعة عقود بالنسبة لليبيا، وبين دول مجلس التعاون الخليجي التي عاشت استقرارا سياسيا تحسد عليه. لكن ذلك لم يمنع من قيام أنشطة إرهابية، ومن انخراط شبابها بكثافة في أنشطة التطرف والإرهاب، ولا يميز في ذلك بين دول الخليج، أو سورية والعراق وليبيا، من حيث مشاركة الشباب في تلك العمليات.

في هذا الأسبوع، تعكس عمليات الإرهاب بدقة هذه القراءة. وفقا للمرصد السوري لحقوق الإنسان، ارتكب تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" ثاني أكبر مذبحة للمدنيين في سورية، خلال هجوم شنه على مدينة كوباني، الواقعة على الحدود التركية، وقرية برخ بوطان القريبة منها، قتل خلاله 146 مدنيا. وفي الوقت نفسه، ذكرت الأمم المتحدة أن هجوما منفصلا للدولة الإسلامية على المناطق التي تسيطر عليها الحكومة في مدينة الحسكة، شمال شرق سورية، تسبب في إجبار ما يقدر بـ60 ألف شخص على الفرار من منازلهم، محذرة من أن ما يصل إلى 200 ألف شخص قد يحاولون الفرار في غضون الأيام المقبلة.

في تونس، حيث جرى التحول الديموقراطي، كان الهجوم على محافظة سوسة، على ساحل البحر الأبيض المتوسط. ونفذه إرهابي يحمل رشاش كلاشنكوف، وأودى الهجوم بحياة 39 شخصا، بينهم سياح أجانب.

ولن نتحدث عن اليمن، وما أدراك ما اليمن؟ وقد تحول فيها الصراع الدامي من طابعه القبلي إلى الشكل الطائفي المقيت، ليضيف إلى معاناة اليمنيين معاناة أخرى، أقسى وأمر.

وهنا بمنطقة الخليج العربي، شهدت الكويت، لأول مرة، جريمة إرهابية في تاريخها المعاصر، حيث استهدف مسجد الإمام الصادق، بالطريقة ذاتها التي استهدف بها مسجد الإمام علي في بلدة القديح بالقطيف، ومسجد الإمام الحسين بحي العنود بالدمام، وتجاوز عدد الضحايا الـ30 شخصا نحتسبهم جميعا في عليين.

ما تقدمه هذه القراءة، أن كل المحاولات التي جرت لفك طلاسم الإرهاب، غيبت أمرا واحدا، هو أن هذه التنظيمات تم تأسيسها وإعدادها لتضطلع بدور تفكيك الكيانات الوطنية، وتقسيم المنطقة، وفقا للمشاريع التي بدأ الحديث عنها منذ منتصف السبعينات من القرن المنصرم، وأكد عليها مرة أخرى في مؤتمر مدريد للسلام بالشرق الأوسط عام 1990، وبدأت التقارير الاستخباراتية تظهر في العلن عن شكل جديد للشرق الأوسط، يكون الكيان الصهيوني هو قطب رحاه.

وكان الحديث من قبل البعض عن هذه المشاريع يصطدم بممارسة إرهاب فكري عليه، فسيف نظرية المؤامرة مسلط بحق من يقول بوجود مشاريع للتقسيم. وحتى الإعلان الصريح عن النية لتفتيت دول المنطقة، وتلازم صدور تقرير مؤسسة "راند" عن الاستراتيجية الكبرى لصياغة خارطة جديدة للشرق الأوسط، بالتزامن مع ما عرف في حينه بالحرب العالمية على الإرهاب، لم يكن سببا كافيا لقرع أجراس نذر الخطر، وبقينا نعيش في وهم "دمقرطة" المنطقة التي سيقدم على تنفيذه "العم سام" بقوة السلاح، وعن طريق الاحتلال المباشر.

الآن هناك قوى دولية وإقليمية وبالتضامن مع قوى محلية، تعمل جاهدة على تنفيذ مشروع التفتيت. ترسل شبابنا إلى محرقة الموت. وتقوم بتأسيس فرق الموت في عدد من البلدان العربية، تمويلا وإعدادا وتسليحا، وتقديم تسهيلات لوجستية.

لا ينبغي أن يتم البحث عن الحلول في الفراغ، فالجهات التي تدعم الإرهاب معروفة لكل ذي عقل وبصيرة، والمطلوب هو تجفيف منابع الإرهاب، ومحاسبة تلك الجهات دولا ومؤسسات، باعتبارها متهمة، وبشكل مباشر بارتكاب جرائم حرب بحق الإنسانية.

وعربيا، ينبغي العودة إلى المواثيق التي حكمت العمل العربي لعقود طويلة، وعلى رأسها عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية، وحل الخلافات بالطرق السلمية ومواجهة الإرهاب. هو موضوع ذو شجون وبحاجة إلى المزيد من التأصيل والتحليل في أحاديث مقبلة بإذن الله.