في شهر رمضان المبارك يقبل الناس على قراءة القرآن إقبالا شديدا، ويتسابقون في ختم القرآن ما بين مستقل ومستكثر، فرمضان شهر القرآن بلا شك، وهو موسم من مواسم العبادات والتكثر منها.
نعم، إن رمضان شهر القرآن، لكن بأي معنى؟ أبمعنى الإقبال على "تحريك" الشفتين به لنيل الأجر والثواب السهل بنطق الأحرف دون فهم ولا تطبيق ولا انتهاج لنهجه؛ دون "تحريك" الحياة به واتباع هديه، وسلوك ما يأمر به من قطعيات يتفق عليها جميع أهل القبلة؟
لقد ربط الله تعالى الهدى والصلاح والفلاح والحياة الطيبة باتباع كتابه الكريم، فقال: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}، ووصفه بأنه {يهدي للتي هي أقوم}، ووصفه بأنه {شفاء ورحمة للمؤمنين}، وأنه {هدى ورحمة وبشرى للمسلمين}، وأمر الله عباده أن يتبعوه فقال: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون}، وسمّاه الله تعالى: {ذكرى للمؤمنين}، و{تذكرة للمتقين}، إلى آخر تلك الآيات الكثيرة التي تربط الصلاح والفلاح والحياة الطيبة بالقرآن الكريم واتباعه.
فما المقصود باتباع القرآن الكريم؟ اتباع آيات الأحكام فقط؟ أم اتباع مقاصده الكلية العظيمة من تحقيق العدل وقيام الناس بالقسط، ودفع الظلم ورفعه عن المظلومين، وأداء الأمانات إلى أهلها، ومساعدة الفقراء والمحتاجين، والتسوية بين الناس في الحق بلا طبقية ولا تمييز، وجعل معايير الحكم على الناس لا بأحسابهم ولا أنسابهم ولكن بالاستقامة والعمل الصالح، وحسن الظن، لأن بعض الظن إثم.
إن آيات الأحكام في القرآن كآيات المواريث والوضوء وأحكام الغنائم مثلاً والأنفال وغيرها لا تتجاوز خمسمئة آية، أما سائر آيات القرآن الكريم فهي ليست من آيات الأحكام الفقهية، بل ما هي إلا قصص، وعبر، وإيمان وأخلاق.. إلخ.
والسؤال الذي أطرحه على نفسي وعلى القراء الكرام، ونحن نشهد هذا الإقبال الشديد على قراءة القرآن، أين القرآن الكريم من حياتنا؟ وهل نحن –رغم الختمات المتتالية– نطبق القرآن حقا؟ هل نحن نعيش مع القرآن وبالقرآن، وقبل هذا وذاك، هل نبذل جهدا كافيا حقيقيا لفهم رسالة الله؟
أين نحن مثلا من قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]؟ "بضم الحاء، وإسكان السين" أي إن الله هنا لا يأمرنا أن نقول كلاما متصفا بالحسن، بل يأمرنا أن يكون كلامنا هو الحُسن ذاته! فيا ليت شعري –لا سيّما من يدعو إلى الله وينادي بهذا ليل نهار– أنحن في خلافاتنا الفكرية نتبع هذا الأمر الإلهي الصريح؟ أظن أن استعراضا لما يجري من نقاش على وسائل التواصل الاجتماعي كافٍ ليقدم لنا إجابة عن مدى تطبيقنا لهذه الجملة القرآنية العظيمة.
أين نحن من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12] فهل نحن نتجنب سيئ الظنون؟ وهل بعضنا لا يتتبع عورة أخيه؟ وما أخبار الوقوع في الناس وغيبتهم بلا مسوغ؟ أين نحن مثلا من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات: 13]. أنحن فعلا نهتدي بهذه الآية؟ أنحن فعلا نزن الناس بميزان التقوى لا بميزان الحسب والنسب والطائفة والقبيلة والمنطقة واللون والعرق؟ أين نحن مثلا من قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170].
أنحن في عوائدنا الاجتماعية، في شؤون الزواج والطلاق وغيرها نسير على تقاليد الآباء والأجداد؟ أم نسير حقا على شرع الله وأمره ومقاصد دينه؟ أين نحن مثلا من قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]. أنحن حقا نتجنب الإسراف في حياتنا؟ في طعامنا وشرابنا ولباسنا وحلنا وترحالنا وسفرنا ومقامنا؟ أين نحن مثلا من قوله تعالى: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين}. أنحن بعيدون عن هذا الخلق الذميم في إنفاق المال في غير وجهه وبعثرته بلا حاجة؟
لا يمكن أن يكون القرآن مصدرا لفلاح ونجاح وصلاح وحياة طيبة بدون أن يكون منهجا تقام به الحياة، إن النصوص وحدها لا تقيم شيئا بدون مجتمع يقوم بها ويطبقها على الوجه الصحيح.
لا يمكن أن نزعم أننا نتبع القرآن حقا ونحن لا نسعى إلى تطبيقه التطبيق الحقيقي في حياتنا.
إن القرآن الكريم بآياته الواضحات البينات معيار حقيقي، ميزان نقيم به أنفسنا وحياتنا، وما سردته أعلاه من آيات القرآن الكريم ما هو إلا القليل من توجيهات الرب، سبحانه وتعالى.
وليت شعري -أخي القارئ الكريم- أبوسعنا أن نكون صادقين مع أنفسنا حين نجيب عن هذا السؤال:
أين القرآن الكريم من حياتنا؟
سؤال، وا خجلتاه من الله بالإجابة عنه. والله المستعان.