مسكين أنت يا صديقي الصغير، لم يحظ موتك بالأبهة الفجائعية التي "يسخو" بها داعش على ضحاياه الأبرياء.
موتك عابر وحياتك عابرة، مثل ظل كومبارس يبيع الورد للبطلين العاشقين في فيلم سينمائي ثم يختفي تحت المطر، دون أثر سوى ظل الوردة على وجه البطلة الفاتنة.
وحدك تسير في العتمة وتحت المطر الثقيل، لم يسألك أحد ما عن اسمك، عمرك، بيتك، سريرك، عائلتك، أصدقائك، ألعابك، أحلامك أو على الأقل عن فيما كنت تفكر وأنت تبيع الوردة للعاشقين.
من قال إن الخبر العاجل يحتاج إلى أكثر من نبأ الموت المشروط بعناصر الدراما المشوقة لهواة الرعب والأكشن، حيث قسوة الصورة، الدماء ، الوحشية الصادمة، وداعش تحقق أعلى أرقام المبيعات في شباك التذاكر الواقعي.
لسنا هنا بحاجة إلى وجوه الضحايا أو أحلامهم، أبطال اللقطة "الملحمية" يكفي أنهم أدوا دورهم بإتقان وماتوا خارج المألوف، الأخبار لا تحب المألوف.
أنت لست مثلهم، حتى أولئك العابرون دون أسماء ووجوه نحو الموت في المشهد التراجيدي الدموي حظوا ببعض الهيبة والامتنان، وخصصت لهم مساحة مناسبة على شاشات التلفزة، مساحة تليق بارتفاع نسب المشاهدة والإثارة و"الحرفة الإعلامية" حتى قناة الـ"سي إن إن" الأميركية الشهيرة تحدثت عنهم في خبرها الأول في النشرات اليومية، فيما أنت متّ كقطة شريدة لم يلمح تعذيبها أحد.
أنت لست مثلهم يا صديقي ولا حتى مثل القطط، آسفة، قبل فترة قرأت بيانا أصدره ناشطون مغربيون ووقع عليه الآلاف احتجاجا على تعذيب كلب شارد من قبل أشرار، وقامت الدنيا ولم تقعد حزنا على الكلب المسكين، أما أنت، فمن يأبه لتعذيبك؟! أنت مجرد رقم بين آلاف الأرقام السورية غير الصالحة لدراماتيكية الخبر، لم تحظ حتى ببيان احتجاجي!
أعلم أنهم تداولوا شريط تعذيبك على مواقع التواصل، إلا أنك لم تصبح خبرا، آسفة -يا صديقي- مرة ثانية.
حتى وسائل الإعلام العربية لم تتحدث عنك، للأمانة "ريتا خوري" زميلتي في راديو مونت كارلو تحدثت عنك في برنامجها ريتويت، ريتا حزنت من أجلك أقصد من أجلنا، وحولتك إلى خبر لو للحظات، ريتا بكت، هي ما تزال حية، الآخرون حزنوا من أجلك كثيرا أيضا، إلا أنهم لا يقدمون برامج حول مواقع التواصل مثل ريتا، لكنهم يقصدونك كلما تحدثوا عن حقوق الإنسان.
يا صغيري المسكين، لقد أخفقتَ في اختيار طريقة موتك، كان عليك أن تقضيَ ذبحا أو تفجيرا على يد داعش أو القاعدة، حينها فقط كانت صورتك ستظهر على قناة الـ"سي إن إن" وكل المحطات الفرنسية، أما أن يتم تعذيبك حتى الموت على يد حفنة من عناصر ميليشات نظام بشار الأسد فهو أمر لا يستحق الفزعة الإعلامية.
ما الجديد في أن يصفعك "رجال" كالوحوش على وجهك الطفولي عشرات المرات، أو أن يضربوا رأسك الغر بالأرض حتى تنزف دمك وتلفظ أنفاسك الأخيرة، وأنت تتوسل بعض الرحمة من قلوبهم الميتة؟ لقد فعلوها مرارا منذ بدء الثورة في سورية، حتى إنهم قطعوا عضو رفيقك حمزة الخطيب، فما الجديد في موتك كي تتناوله الأخبار؟
ثم ليس "داعش" من قتلك، إنهم "رجال" الأسد "العلماني"، وحسب الشرعة الدولية، العلمانيون مسموح لهم أن يقتلوا الشيوخ والنساء والأطفال، لأنهم يحاربون الإرهاب المتطرف، وقد رأوا في جسدك البض مشروع إرهابي قادم، ألم تكن تحتفظ بنشيد مغني الثورة القاشوش في جهازك الخليوي؟ أليس هذا إرهابا لا يفوقه إرهاب؟.
"بدك تسقط بشار؟" قالها "الرجل" ذو الصوت الأجش واللهجة القاسية، رددها على مسمعك أكثر من مرة وهو يواصل ضرب رأسك بالأرض، متلذذا بموتك على أنغام أغنيته الأثيرة "بشار..... بشار..... بشار" ليس من جديد في موتك، لقد فعلوها سابقا آلاف المرات، ولم يحاسبهم أحد، وبات الموت السوري التقليدي على يد "العلمانيين الأسديين" لا يلبي طموح المشاهد، لا بد من ابتكار موت أكثر حداثة ولفتا للنظر كي تدخل في حلبة المشهد، والأنسب أن تموت على يد داعش، لا على يد أتباع شاب أشقر أزرق العينين درس في لندن، ليس من مقارنة بين القاتلَين، فالأول عنيف وحشي وفي المختزن العقلي الموروث آلاف الحكايات الشريرة التي "تؤسطر" الموت على يده وتجعله ملحميا، الموت على يد المتطرفين ممن يعتقدون أنهم حماة الإسلام فيه الكثير من الزخ الدرامي الذي ينبش في الذاكرة عن محاكم التفتيش والعنف الديني الممارس زيفا باسم "الله" عبر العصور، لا كالموت على يد الثاني "البعثي العلماني" الذي ترتدي زوجته الفاتنة ماركة "اف سان لوران" وتراقب وزنها عبر ساعة لرصد الحُريرات في يدها النحيلة، عكس زوجة أو زوجات البغدادي البدينات.
ليس لائقا على الإطلاق مساواة داعش ببشار الأسد، ورغم أن الأمر يثير السخرية والبكاء معا يا صغيري، إلا أنه لا بد من "الإشادة" باللفتة الاستثنائية والجدُّ "نبيلة" لزوجة الأسد ملقي البراميل المتفجرة على المدنيين، فأن تعرب "أسماء الأسد" على صفحتها الفيسبوكية عن قلقها على طائر أبو منجل في تدمر المحتلة من قبل داعش؛ لأن الطائر على وشك الانقراض ولا بد من حمايته، رقي وحساسية مفرطة لا يمكن أن ترقى إليها زوجة البغدادي قاطع الرؤوس، رغم مواكبتها للتكنولوجيا وامتلاكها صفحة فيسبوك.
أرأيت؟! أرأيت كم أن الفارق كبير بين القاتلَين، بين الزوجتين، وبين الموتين؟
كيف تريد لصناع سينما الخَبر أن يحفلوا بموتك أو تعذيبك على يد زوج "ماري أنطوانيت السورية "القلقة على مصير طائر أبو منجل؟
من سيصدق روايتك أو روايتنا؟ لو لم تكن إرهابيا لقلقت ماري أنطوانيتنا من أجلك، أليست رقيقة القلب حد الرفق بطائر؟
صديقي الصغير المسكين، لم أنم جيدا منذ رؤيتي شريط تعذيبك على الفيسبوك، قالوا إنك مت، لم أعرف ما اسمك، من أين أتيت، من أهلك، ما برنامج الأطفال المفضل لديك، ما لعبتك المفضلة، هل تحب الشوكولا أم لا، ماذا كنت تحلم أن تصبح حين تكبر، هل كنت تفهم معنى أغنية القاشوش تلك، وهل تعرف حقا من هو بشار الأسد الذي قُتلت "كرمى" لعينيه؟
لم يذكروا عنك شيئا وأنا لم أفتش، فالأسماء والوجوه والذكريات تمنح الجثة حياتها السابقة، أنت لم تمتلك حياة في الأصل، أنت محكوم بالموت في بلد "علمانيوه" الداعشيون لا يحاكمهم أحد.
هذا الزمن يتسع لسينما الأكشن وحدها، لم يعد هناك متسع للحديث عنك، العالم مقصلة يا صغيري، رأسك الصغير الوحيد اليتيم والخائف هو المرمي تحتها دون أدنى خبر، ذنبك فقط أنك لم تمتلك "ترف" الموت والشهرة تحت مقصلة داعش، لتبقى مجرد ظل كومبارس عابر يبيع الورد ثم يعود إلى المقبرة بعد أن يبصق في وجه هذا العالم الساقط.