في رسالة دكتوراه قدمت في إحدى الجامعات المصرية عن الدراما توصلت فيه الدراسة إلى ضرورة أن تلتزم الدراما بعرض كل ما يعمل على حماية الهوية العربية القومية والإقليمية؛ من خلال إبراز ثراء المجتمع العربي بالعادات والتقاليد المهمة. وعيه يجب التعاون المستمر بين الجانب الأكاديمي والفني من خلال اللقاءات والندوات واللجان وورش العمل حتى لا تحدث فجوة بين الجانبين الأكاديمي والفني الذي قد لا يكون مبدعوه على وعي كاف بسلبياته وخطورة تأثيره. كما أوصت الدراسة أن يكون للتلفزيون دور مؤثّر في إثراء الثقافة المجتمعية للجمهور من خلال تحويل الكتابات الموجودة فعلا عن الشخصيات البارزة إلى أعمال درامية تلفزيونية.

أنا لم أطلع على الرسالة العلمية كاملة، ولكني اطلعت على ما نشر منها من مقتطفات في إحدى صحفنا المحلية؛ وعليه من الصعب الحكم عليها بشكل عام، ولكن سأحكم على ما اطلعت عليه من توصيات الرسالة. أعتقد بأن توصيات الرسالة التي نشرتها أعلاه؛ لا تمت للدراما بأي صلة، بل هي ضد الدراما وقاتلة وقاضية عليها. ومن كتب هذه الرسالة التي من المفترض أن تكون علمية، وكذلك فإن من أشرف عليها، ومن ناقشها من الأكاديميين؛ لا يعون البتة ما تعنيه الدراما، ولا ما تهدف إليه. وإذا كان رأي النخبة الأكاديمية التي أشرفت على رسالة الدكتوراه؛ لا تعي ما هي الدراما، ولا ما تصبو إليه، حسب توصيات الدراسة؛ فما بالعامة من الناس؟! بل إن العامة من الناس؛ كانوا يفقهون معنى وهدف الدراما، أكثر من غيرهم لولا أن أتى بعض من ينتمون إلى النخب الأكاديمية والدينية المؤدلجة ليشوشوا على فهم العامة الصحيح، للدراما.

كان المشاهد العربي للدراما، حتى نهاية السبعينيات الميلادية مشاهدا محترفا متزنا، مثله مثل أي مشاهد في العالم للدراما؛ يستمتع بمادة العمل الدرامي؛ دون تحميل العمل أي أوزار دينية أو اجتماعية أو حتى أخلاقية. ولكن هيمنة المتطرف الديني في مصر على الساحة، واعتقاله المنابر العامة والخاصة ومن ثم في الخليج في الثمانينيات؛ قلب موازين النظرة المحايدة للفن بشكل عام، والدراما بشكل خاص. وتمت سيطرة المتطرف الديني على الساحة العامة، ليس لكونه أفضل الموجود حينها؛ ولكن تم التمهيد له وتسليمه هذه المنابر من قبل السلطات الرسمية حينها، وليس هذا تدينا منها كذلك ولكن لضرب خصومها القوميين واليساريين العرب الذين كانوا يتحكمون بالساحة العربية في الخمسينيات والستينيات وحتى بداية السبعينيات الميلادية.

كان الفن بشكل عام، والدراما بشكل خاص؛ المتنفس شبه الوحيد للمواطن العربي الذي كان يعيش حينها في ظل الدكتاتوريات والقهر السياسي والاجتماعي، حتى أصبح نجومه هم نجوم المجتمع، بل يتفوقون على نجوم السياسة ناهيك عن نجوم الدين المتأدلج. السياسي، بشكل عام، وحتى لو كان ديكتاتوريا ومتسلطا كان لا يخاف الفن إذا لم يتعرض له مباشرة؛ بل على العكس، قد يدعمه ويشجعه. وذلك حتى يكون الفن لاعبا خارج السياسة، وداخل الحقل الاجتماعي لا غير؛ وهذا بالفعل مجاله الصحيح حتى في المجتمعات الديموقراطية.

ولكن عندما تم دعم نجوم التدين المتطرف والمؤدلج، ورفعهم إلى سماء المجتمع؛ وكما ذكرنا قبل، ليس بهمتهم ومواهبهم وثقافتهم، ولكن بتواطؤ الديكتاتور معهم؛ وجدوا أن نجوم الفن -بالتحديد نجوم الدراما- هم من كانوا يسيطرون وباقتدار ذاتي منهم، على سماء المجتمع. وهنا ركز المتطرف الديني على أن يكون همه زحزحة النجم الفني، حيث خفت قبضة الديكتاتور السياسي عليهم وقتها، لا، بل أصبح بصف المتطرف الديني على حساب الفنان المبدع، حيث كان يعتقد بأن جمهور المتطرف الديني يشكلون خطرا عليه؛ أما جمهور الفنان المبدع فلا يشكلون عليه أي خطر يذكر.

ومنذ نهاية السبعينيات والحملات الدينية المتطرفة تشن لتشويه وتحريم وتكفير الفن، بشكل عام، ونجوم الفن بشكل خاص، وبدأنا نشاهد حينها ما يسمى بتوبة الفنانات، وتحجبهن واعتزالهن؛ والذي اكتشفنا في الأخير أن ملايين الدولارات تزخ، وبكل كرم وسخاء، من أجل هذه الحملة، ومن قبل تنظيمات دينية معروفة. كما يجب ألا ننسى سيطرة التيارات الدينية المتشددة، على بعض مفاصل الحقل الأكاديمي، في الجامعات العربية؛ والتي بدورها لم تقف مع الفنان الذي كان يتعرض لحملات ليست تشويها فقط؛ ولكن تصفية ممنهجة. بل الحقل الأكاديمي وقف ليس محايدا فقط؛ ولكن في بعض الأحيان، وقف في صف المتطرف الديني في محاربته الفن بشكل عام، والفنان بشكل خاص.

هذا ما خلق تشوها لمعنى الفن، بشكل عام، والدراما بشكل خاص عند المتلقي العربي؛ حيث وصل التشوه أن جامعة مصرية تخبطت في فهم المعنى الأكاديمي والعلمي للدراما، والتي تدرس بكل دول الدنيا ومنذ أكثر من 2500 سنة. والجامعة من مصر، البلاد العريقة في الفن والدراما، حيث المسرح تأسس فيها قبل أكثر من قرن ونصف القرن والسينما بعد اختراعها في فرنسا بسنتين؛ أي قبل كثير من الدول الأوروبية. لعل هذا نتاج الحملات التكفيرية الممنهجة الطويلة التي شنت على الفن بشكل عام، والدراما بشكل خاص؛ من أجل تشويهه والقضاء عليه والتخلص منه؛ لفتح المجال أمام التوحش والتشوه على مصاريعها في سموات المجتمعات العربية، وهذا ما حصل بالفعل؛ ومن لا يشاهد ذلك فهو أعمى وأضل.

الفنون والآداب بشكل عام، هي ليست فنونا تقريرية، تجزم بما تقول، أو تدعي امتلاكها الحقيقة، وإلا لانتمت إلى حقول أخرى، مثل السياسة والدين وغيرهما من حقول تقريرية؛ لا حقول الفن والأدب. منذ أكثر من 2500 سنة، والفيلسوف اليوناني أرسطو، أكد في كتابه "فن الشعر" أن الفنون بشكل عام، والدراما بشكل خاص، يجب أن تحاكي الواقع، وتنطلق منه؛ لا تعكسه شرطا كما هو وترتبط به. أي بأن الفنون والآداب يجب أن تكون غير مباشرة؛ وكل ما كانت نهاياتها مفتوحة أصبحت أكثر جمالا وروعة؛ وخلدت مع النصوص العالمية الخالدة.

أن يطلب من الدراما أن تبرز عادات العرب الثرية والأصيلة وما شابه ذلك من مطالب، لا تهم الدراما لا من بعيد ولا من قريب؛ إلا فقط بأن تكون جزءا من مادتها التي تنطلق منها؛ لتسبح في خيالات مبدعيها؛ وتصل إلى نهايات مفتوحة قابلة لكل التأويلات والجدل حولها؛ فهذا حرف غبي للدراما عن مهمتها الأساسية، والتي وجدت على أساسها قبل آلاف السنين وعرضت على مسارح اليونان والرومان، المدرجة والفسيحة، وأبهرت مشاهديها، كما تبهرهم الآن الدراما التي أسست على أصولها. الدراما لم توجد لتحل مشاكل الناس، ولا يجب أن تشكلهم أخلاقيا؛ وإنما مهمتها أن تمتعهم بمشاهدة مواقف درامية ممتعة وجاذبة وتقبض على الأنفاس. ثم أن تطلب الدراسة من أن يربط مبدعو الفن الدرامي بالأكاديميين، من أجل أن يعوا ما يقدموه؛ فهذا أغبى ما سمعته! بل وإجرام في حق الإبداع. الإبداع هو أفق رحب ومن أراد أن يقحمه لإرشادات ومواعظ ويربطها به؛ يحيله إلى نفق خرب. الدراما بشكل خاص وباقي الفنون والآداب، لن تحل محل البحوث العلمية الاجتماعية التي يجب أن تكون من مهام الجامعات الأساسية لا غيرها.